يقلّب صاحبنا الافتراضي هنا في قصة دائمة التكرار: مواقع التواصل الاجتماعي، ويراقب شاشة التلفاز. تؤذي مشاعره وتهزها تلك المناظر الدامية لإخوة عرفهم في سنين حياته الأولى إخواناً لعروبته، التي فقدت معانيها في بلاد متقلصة الحدود والهوية، وتُثقل راحته المعتادة تلك الصور لأشقاء إيمانه بدينه السمح، الذي صار وصفاً لازماً لكل مظلوم لم تساعده يد المجتمع الدولي، ولم تسمع صوته هيئات الأمم العاجزة. تخنقه العبرة، ويقتله شعور العجز المستديم، يخفف عنه ترديد جملة اعتاد سماعها من شيخ المسجد، يستدعيها كطوق نجاةٍ بعد غرق، ويتشبث بها، يجري مهرولاً -وهو في مكانه نحو الحساب الإلكتروني الذي يملكه، ويلهث- وما انقطع نفَسه ولا تسارع نبض قلبه لرفع هذا الكاهل الثقيل عنه، يكتب في حرقة -لا شك فيها- وألمٍ تغريدة: "لا نملك إلا الدعاء.. اللهم انصرهم"! صاحبنا -وكلنا هذا الصاحب- ابن وطن عربي، ومسلم كبير، ذو تاريخ لو امتلكته أمة غير التي انتمى لها ما هدأ فتيل تغييرها وحراك ضميرها يوماً عن الاشتعال. وطنه العربي على ثروة نفطية، ومليء بالأيدي العاملة، والعقول الباحثة المغتربة، ورجال الأعمال الناجحين، والتراب الخصب، والتنوع الثقافي، والموقع الجغرافي الوسيط. دينه يخاطب العقل والروح معاً، قرآنه يدعو للقوة والإعداد واستحضار معاني الكفاح والجهاد في مسيرة الأنبياء مُذْ بدأت الحياة، يقرأ الكهف كل جمعة، وفيها شباب رفضوا لوحدهم حال أمتهم، وتحركوا فحرك الله لهم نواميس الوجود، وفيها نبي يطوف الأرض بحثاً عن العلم والعمل، وفيها حاكم ومتنفذ سخّر قوته للعدل ونشره. تاريخ أمته مليء بمعاني العزة والقوة وقيم البناء الحضاري، لا تشجع ظروف العالم المتغير حوله نفسهُ أن تستقر في حالة من السكينة، والتوقف عن الحراك والعمل والمنافسة. هو ذاته صحيح البدن، ابن أسرة غنية عن التسول والحاجة القاهرة، في عز شبابه وتفرغه يدرس أو درس الجامعة، يعمل ربما ويعول أسرة، لديه مواهب متعددة، وعلاقات نافذة، ليس أمياً ولا معاقاً ولا خاوي الإيمان. ثم يقول: "لا نملك إلا الدعاء"! ليت صاحبنا امتلك الدعاء حتى.. كثيراً ما كنت أتخيل وأفترض الدعاءَ صراخاً في سرابٍ وعدَم، مجرد ترديدات تحفيزية للذات والنفس على الإنتاج والعمل، وكنت أرى أنها لو كانت كذلك، وكذلك فقط، لكانت أكثر تأثيراً في واقعنا من الوضع الحالي. فما الذي يجعل من دعاء أحدنا لله -سبحانه- وهو دعاء منطلق من إيمان حقيقي، ضعيفاً وعاجزاً لهذه الدرجة؟ ما الخلل الكامن فينا وفي فهمنا للدعاء؟ كثيراً ما لاحظنا سلوك غير المؤمنين بالدين حتى، وهم يستمعون الصراخ والموسيقى التحفيزية، والجمل الخطابية المتكررة على نمط "أنت تستطيع"، "خُلقت لها"، وأغاني الراب الدافعة للعمل والتحدي، فتستحيل تلك الكلمات فيهم طاقة كامنة للعمل والإنتاج، وتجعل منهم ماكينات عمل طويل ومستمر. ورأينا أنفع أساليب التدريب الجسدي على الاحتمال والتطور في الجيوش وأندية الرياضة والكشافة قائمة على الحراك الجماعي المنتظم، والهتاف الموحد، والبيئة الحافزة للتماهي في الهدف والغاية. فما الذي يجعل اجتماع المئات في المسجد لقِبلة واحدة، وبهتاف واحد، واصطفافٍ منتظم، ضعيف الأثر على واقعنا؟ لحظة عابرة من الانفعال المؤقت؟! أدعي أن جزءاً أصيلاً من هذا العجز كامن في فهمنا للدعاء وانعكاساته على ما نتلفظ به كنتيجة.. * نقول: "اللهم انصرهم" كأنهم جزء مختلف عنا غير مرتبط المصير والهوية بنا، عوضاً عن "اللهم انصرنا". * نقول: "اللهم ارفع الفتن" كأنها ساقطة علينا دون فعل منا استحقها وغفلة استجرّت بلاءات الإيقاظ والتنبيه، عوضاً عن قول: "اللهم غيرنا وهيئنا لوأد الفتن" إيماناً واضحاً أننا نحن أصل أي تغيير أو تحسن. * نقول: "اللهم هيئ لأمتنا أمر رشد" و"اللهم عليك بالمحتلين المعتدين"، كأننا قوم ارتفعوا عن الالتحام بواقعهم وبمصير أمتهم فصاروا صنفاً ملائكياً لا حساب عليه، عوضاً عن "اللهم هيئنا لنصرة الأمة"، و"مكنّا من دحر المحتلين". وعلى غراره مما يوحي للنفس ويشير للضمير بما بعد الدعاء من عمل طويل وجهد كبير وتضحيات. وهذا كفيل بتوجيه البوصلة من جديد نحو قوة الدعاء النفسية الكامنة في ترديده والهتاف به، فكيف إذا كان المخاطَب بالدعاء القديرُ بمشيئته سبحانه أن يحيل حالنا للأفضل. والأصل أن المشكلة بالمعنى المستقر بالنفس لا باللفظ؛ إذ إن كثيراً من الألفاظ موروثة من دعاء السلف، غير أنها وبتراكم الزمن وضعف اللغة وانتكاسات العجز الطويلة، صارت حالة من الترديد السطحي دون فهم واستحضار للروح فيها؛ مما يستدعي تجديداً ينبه الناس لارتباط الدعاء بهم مباشرة. ثم أجد أننا توارثنا سلبية كبيرة بترديد "لا نملك إلا الدعاء"، بدلاً من قولنا: "نملك الدعاء"، وهو فرق بسيط لفظاً، عميقٌ في انعكاساته على النفس والإنتاج. ثم إن السر العميق في السابق كله يأتي فيما بعد الدعاء، من عمل وتضحيات، وهي نقطة يفهمها البعض، ويتجاهلها جبناً وضعفاً أمام أثمان ومخاسر العمل، وتغيب عن البعض الآخر اعتقاد سلبي متوارث من خطاب الدعاة والمشايخ في هذا الزمن. يستطيع صديقنا بالدعاء في حالة أدنى من العمل المؤثر تخزين طاقة الغضب فيه، وتفريغها في عشر مقالات طويلة التمعن في تحليل حال قضيته ووطنه السليب، بإمكانه اتخاذ قرارات جدية بالقراءة المستمرة في مجال تخصصه أو اهتمامه، إضافة للفكر والسياسة؛ ليعي واقع أمته وينتج له مستقبلاً، لديه قدرة توعية أسرته وعائلته بالمقدسات المحتلة وتطور الوجود الصهيوني في وطننا، وتاريخ تمكن الاستبداد عندنا وارتباطه بالصهيونية، تخصيص جزء ثابت من استثماراته لدعم المستضعفين في وطنه الكبير من حلب لعدن، دراسة علاقاته بالنافذين إعلامياً وتوجيههم لدعم القضايا العربية والمسلمة، الضغط على المشاهير لترقية المحتوى عن المرح والتسلية فقط، وتوجيه استهلاكه الشخصي أقلها ليدعم المنتج المحلي، ولو ضعفت جودته، على حساب المنتج الأجنبي القادم من بلد مستعمرٍ أو متواطئ، وتوظيف اللاجئين من أبناء وطنه، والمشاركة مع أصدقائه في مؤتمرات العلماء وصناعة الاهتمامات والفكر.. وغيرها من مقدمات العمل المتقدم لاحقاً. يملك صاحبنا الكثير والكثير جداً، لكنه لا يملك الدعاء ولا معانيه الحقيقية، يزيح عن كاهله بهذا المنشور الهم الذي تراكم على صدره وخنقه، يرمي بتلك الدعوات التي لم يستخرجها من قلبه الكاهل عنه، ويرميها للقدر والمستقبل. يريد الطريق السهل، الذي لا يشير له ولعائلته ومسجده وقريته، يشير بحالة من العجز الخاوي للسماء. لو أشار لنفسه.... تمتم: "غيِّرني يا رب".. لانطلق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :