المؤرّخة والكاتبة كاثرين ميريدال: روسيا قد تتعرّض للغزو لكنها لن تخضع لأي سبب

  • 12/21/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كاثرين ميريدال مؤرّخة لامعة متخصصة بشؤون روسيا وكاتبة مرموقة في أهم صحف لندن. يصدر كتابها Lenin on the train (لينين 1917: قطار الثورة) في الأول من مارس 2017. في هذه المقابلة مع مجلة اكسبرس الفرنسية نغوص معها في أعماق التاريخ الروسي. بعد مرور قرن على ثورة عام 1917، يبدو ظل لينين بعيداً جداً. هل يمكن أن نستنتج أن عام 1917 لم يكن هامشياً من الناحية التاريخية؟ غيّر عام 1917 وجه العالم! من دون لينين، كانت أفكار كارل ماركس لتبقى نظرية تُدرَّس في مدارس الحزب الشيوعي. لكن تولّى لينين ترجمتها إلى أسلوب حكم إيديولوجي وحوّلها إلى نظام سياسي بحد ذاته. لا يمكن أن نقول إن هذا النهج لم يغيّر مسار التاريخ. هل يمكن أن نقول إن الشيوعية لم تكن قادرة على بلوغ السلطة إلا في بلد استبدادي مثل روسيا؟ يسهل علينا أن نعترف بأن روسيا مختلفة عن الدول الأخرى. لكنها فكرة خاطئة: ترتبط روسيا بتاريخ أوروبا وتشكّل جزءاً مهماً منه. لكن يسلّط بعض العوامل الضوء على الخصوصية الروسية. لطالما كانت الزراعة في هذا البلد أصعب من أي مكان آخر وشكّل كسب الأرباح الجماعية بالاتكال على الأرض الجاحدة تحدياً دائماً وسرعان ما ألقى بثقله على التقدّم الاقتصادي والاجتماعي، وأخيراً على طبيعة الدولة. تتعلق خصوصية أخرى بتأثير الدين: منذ نشوء الدولة الروسية، أدى اختيار الأرثوذكسية إلى انفصال متعدد الوجوه عن أوروبا الكاثوليكية. كان فك الارتباط بروما وبالتالي الاستقلالية الروحية عن الغرب جزءاً من تعريف الدولة الروسية. لذا ساد شعور بأن روسيا مختلفة ومفصولة عن بقية بلدان القارة. ألا يشكّل استغلال السلطة جزءاً من الخصوصية الروسية أيضاً؟ يقال إن روسيا تبحث دوماً عن زعيم يتمتع بالصلاحيات كافة، وهي فكرة انتشرت على نطاق واسع، لكنها تشتق بشكل أساسي من السلطة بحد ذاتها. استغلّ جميع القادة السلطة وبوتين ليس استثناءً على القاعدة. نشروا هذه القصة وتمكّنوا في النهاية من إقناع البلد بأنه لن يجد السعادة إلا عبر نظام سياسي قوي ومركزي. لماذا؟ يرتبط هذا الوضع على الأرجح بتاريخ هذه المساحة الشاسعة. كان جزء من روسيا يخضع لحكمٍ متشدد جداً بينما سادت الفوضى في الجزء الآخر. طغت النزعة الأولى على الثانية وأقنعت الحشود بأن الفوضى مرادفة للغرق والزوال إلى أن صدّق الشعب أنّ غياب حاكم نافذ يؤدي إلى انهيارٍ تلقائي. هكذا أصبح الحكم الاستبدادي بمنزلة أسطورة وطنية. الجغرافيا والأسطورة هل تؤدي الجغرافيا دوراً في هذه النزعة الاستبدادية أيضاً؟ أظن أن شيئاً لا يكون محدداً بشكلٍ مسبق: التاريخ يحدد مساره ولا علاقة للجغرافيا ولا المناخ بذلك... يمكن أن نتخيّل ما يشبه الممر الضخم الذي يمتد في سهوب آسيا ويصل إلى المساحات الطبيعية في أوروبا الوسطى. طوال فترة نشوء الدولة الروسية، انطلقت موجات متلاحقة من المحاربين البدو على طول هذا المحور، ما جعل روسيا بيئة خصبة لأشكال النهب كلها. من جهة، ساد شعور بالخوف وانتشرت قناعة دائمة مفادها أن البلد سيبقى معرّضاً للغزو والدمار من أطراف خارجية. ومن جهة أخرى، بُنيت روسيا على الفكرة القائلة إنها درع أوروبا. هذا ما يفسّر البناء الأسطوري للتاريخ الروسي... نعم، ربما تتعرّض روسيا للغزو، كما حصل في مناسبات متكررة، لكنها لن ترضخ لأي سبب. اكتسب القادة الروس شرعيتهم على مر القرون عبر تذكير الناس بأن جميع الغزاة هُزموا. لكنّ حب الشعب الروسي لأرضه ليس مجرّد خرافة. قابلتُ مئات الجنود الذين شاركوا في “الحرب الوطنية الكبرى” بين عامَي 1941 و1945. كانوا يأتون من القرى حيث دمّرت النزعة الجماعية حياتهم وعاشوا أشكال الحرمان كافة، وواجهوا أسوأ الظروف، وشاهدوا أقاربهم يتعرضون لسوء المعاملة أو الترحيل، وظُلِموا في عهد الستالينية. لكنهم يحبّون جميعاً المناطق التي وُلدوا فيها ويبدون استعدادهم للتضحية بحياتهم لأجلها. كيف تفسرين دور الدين الأساسي؟ يتوقف هذا الدور على الحقبة الزمنية. حصلت نقطة التحوّل الحاسمة عند تتويج إيفان الرهيب الذي كان أول قائد يحمل لقب القيصر. خلال هذا الحدث، نظّم الأساقفة احتفالاً لإقامة رابط مباشر بين الكنيسة وبين “نشوء” شخصية القيصر، فبات الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية أمراً مستحيلاً. كانت الكنيسة مسؤولة عن نشر أسطورة القيصر فطبعت صورته على جدران الكرملين واخترعت له طقوساً ضمن السنة الليتورجية... هكذا أصبح القيصر بمصاف القديسين! انهيار الإمبراطورية لماذا بقيت روسيا على هامش الحركات الفكرية الكبرى وتيارات التقدّم التي هزّت أوروبا كلها؟ يجب ألا نستخفّ بمشاعر كره الأجانب الراسخة داخل البلد، لا سيما في المناطق الريفية. ارتبط أبرز الأهوال الروسية بعمليات الغزو الخارجية. لم يشعر ذلك البلد الشاسع بحاجة إلى التواصل مع الخارج وكان يكره انفتاح أوروبا الكاثوليكية. بقيت شريحة واسعة من الشعب أمّية، وبدورها لم تتمكن الطبقة البرجوازية من التطور كما فعلت في أوروبا الغربية بسبب هياكل السلطة المركّزة. كان البلاط الملكي يتحكّم بكل ما يرتبط بالاقتصاد والتعليم والعصرنة وراحت الكنيسة ترفض معظم الابتكارات الآتية من الغرب. لكن تغيّر الوضع تدريجاً بعدما غزا ألكسيس ميخايلوفيتش أوكرانيا في منتصف القرن السابع عشر، فألحق ببلده مساحة أوروبية سابقة كانت تتجاوب مع أفكار التقدّم. اعتُبرت أوكرانيا أصلاً بمثابة جسر عبور بين الغرب والشرق. ولما كان الأساقفة ورجال الدين الأوكرانيون متعلّمين وأصحاب رؤية منفتحة، فقصدوا موسكو ونشروا أنماط تفكير جديدة وسط النخبة الروسية، ما أدى إلى قطيعة دينية مع المؤمنين القدامى. كان لهذا النفوذ دور مؤثر قبل تأييد بطرس الكبير النزعة الأوروبية، وكان انتقال العاصمة من موسكو إلى سانت بطرسبرغ يرمز إلى التوجّه الجديد. انهارت تلك الإمبراطورية القديمة خلال سنة، في عام 1917. كيف تفسّرين ما حصل؟ انعكست الحرب في عام 1914 على روسيا بعد مقتل 1.8 مليون شخص وبدا البلد مرهقاً. بدأ الانقلاب بتظاهرة بسيطة للنساء في 23 فبراير، بحسب الرزنامة الروسية، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة. كان الماركسيون يعارضون التظاهرة لأنها لم تكن تشبه المسيرات الثورية. خلال يومين أو ثلاثة أيام، نزلت الطبقة العاملة كلها في “بيتروغراد” إلى الشوارع ورفع المتظاهرون شعارات إنهاء الحرب والحرية والعدالة. وخلال أقل من أسبوع، تنازل القيصر عن السلطة ووصل مسؤولون منتخَبون إلى البرلمان الروسي ونشأت حكومة مؤقتة في الجناح الأيمن من قصر “توريد”. في الوقت نفسه، اجتمع عمّال المصانع في المجالس وانتخبوا مندوبين لهم وأرسلوهم إلى البرلمان، في الجناح الأيسر من القصر. فرض الماركسيون سيطرتهم بين السوفيات. وفق نظريات ماركس، يجب أن تمرّ الثورة أولاً بمرحلة برجوازية. لذا شجّع السوفيات الحكومة المؤقّتة على استعمال سلطتها ورفضوا بشكلٍ قاطع المشاركة فيها. ما دور لينين في هذا التاريخ المدهش؟ في الأول من مارس، أصبحت الحكومة المؤقتة فاعلة. كان لينين حينها في المنفى السويسري لأنه كان مهدداً بدخول السجن في روسيا. كان يستحيل عليه آنذاك أن يعود إلى بلده من دون المرور ببلدان أخرى تخوض الحرب. لذا فكّر في المرحلة الأولى بعبور فرنسا وبريطانيا العظمى قبل الإبحار نحو اسكندينافيا، لكن أقنعه المحيطون به بأن البريطانيين سيوقفونه. كان معروفاً برغبته في وقف مشاركة روسيا في الحرب وشعرت باريس ولندن بالقلق من انهيار روسيا وبذلتا قصارى جهدهما للحفاظ على حليفهما الروسي في الحرب ضد ألمانيا. قرر لينين عبور ألمانيا، لذا فكّر أولاً بنيل جواز سفر سويدي لكنه عدل عن قراره. عندئذ اقترحت عليه الأجهزة الألمانية عبور ألمانيا في عربة قطار تمهيداً لقطع السويد لاحقاً وبلوغ فنلندا التي كانت محافظة روسية. لكن حين علمت السلطات البريطانية بذلك المخطط، وضعت استراتيجية مضادة لإيقافه على الحدود السويدية الفنلندية حيث انتظره عميل بريطاني. أوقفه الأخير، لكنه أرسل برقية إلى وزير الشؤون الخارجية في الحكومة الروسية المؤقتة ميليوكوف. ولما لم يكن الوزير موجوداً بسبب عطلة عيد الفصح فخاف النائب الذي تلقى الرسالة من أخذ مبادرة مماثلة. لذا أطلق العميل البريطاني سراح لينين بعد 12 ساعة على اعتقاله. لولا لينين هل كانت روسيا لتتحوّل إلى اتحاد سوفياتي لولا لينين؟ تجيب كاثرين ميريدال: “لا أظن ذلك. كان لينين رجلاً حازماً ومهووساً وذكياً للغاية وكان يسمع محاوريه بإمعان ويعرف ما يريد فعله. حتى أنه كان مستعداً للقيام بأي أمر لتحقيق أهدافه. بدءاً من عام 1903، خلال مؤتمر حزب العمّال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا، اتخذ خطوة عبقرية، فأعلن أنه وأتباعه يمثلون الغالبية في الحزب مع أنهم كانوا لا يزالون مجرّد أقلية على الساحة السياسية. هكذا جرّد الغالبية فجأةً من حقوقها. ما إن ركب القطار في “بيتروغراد”، في 16 أبريل 1917، حتى أعلن عن ضرورة فرض سلام فوري ووقف الدعم للحكومة المؤقتة. بعد سبعة أشهر، في 6 نوفمبر 1917 (ثورة أكتوبر بحسب الرزنامة الروسية)، كان لينين منفياً في فنلندا وقرر الإطاحة بالحكومة”. تتابع: “يتذكر الشعب أن لينين لم يشارك في أي تسوية واعتُبر البلاشفة الحزب الوحيد الذي لم يتورط في الكارثة التي واجهتها روسيا. خلال هذه المرحلة القصيرة، ظنّ معظم الروس أن ذلك الحزب يمثّلهم”. وتختم بأن لينين حمل الرسالة التي أراد معاصروه سماعها، في تلك الفترة على الأقل.

مشاركة :