في يومي السبت والأحد التاسع والعاشر من ديسمبر/كانون الأول الحالي أنهكت التفجيرات الإرهابية مدن مشرِقِنا المُتعَب، فمن مقديشو حيث سقط زهاء العشرة قتلى إلى ثمانيةٍ وأربعين في عدن وزُهاء خمسة وعشرين في القاهرة، ونحو ثمانية وثلاثين في إسطنبول، ناهيك طبعاً عن العدّاد الذي لا يتوقّف عن إحصاء الدّم المراق في ليبيا وبغداد والموصل وحلب والرقة والغوطة، والجروح المفتوحة في بيت المقدس وجوارِه منذ عقود.. مآسٍ لا بواكي لها، ولا شموع توقَد، ولا وقفاتِ حزنٍ تجتاحُ عالمنا المنافق على غرارِ الإنسانيّة المولعة بمدن الرومانسيّة باريس وبروكسل وأخواتها! عدن التي كانت في منتصف القرن الماضي ثاني أهمّ ميناءٍ في العالم، ومقديشو "عاصمة الصومال الإيطالية آنذاك" تلك المدينة النابضة بالحياة، ناهيك طبعاً عن بغداد والقاهرة ودمشق التي كانت مراكز إشعاعٍ حضاريٍّ، لتوِّها تحرّرت من أتون الاستعمار، وبدأت في إعادة بناء نتاجها الحضاري والثقافي، وعادت ترتادُ دورها على خارطة هذا العالم. وممّا لا يقطعُ الشكّ باليقين أنّه ومنذ أواخر القرن الماضي، حينما اجتاحت الإرادة الأميركية تلك الأرض السمراء في القرن الإفريقي، تحت مظلّة محاربة الإرهاب، أنّهم نفسهم صنعوه فيها، فأدخلوه في أتونِ حربٍ لا تنتهي مآلاتها، شرّدت هذا الشعب وشغلتهُ عن استغلال موقعه الاستراتيجي والاستفادة من موارده، حوّلته فعلاً لعصاباتٍ ترعى مصالحهم كما استطاعوا مسبقاً ترويض الأسد الأب؛ ليرعى مصالحهم تحت قناع الممانعة، وكما خربوا لاحقاً أفغانستان والعراق بنفس تلك الحجج؛ ليكون إرهابهم هم أنفسهم مَن سقى الفكر الإرهابي هناك ونمّاه؛ ليُعاوِد قتاله من جديد، فيَحرِق به وبحجّته وجوه هذه المدن التي كانت يوماً ما ليس ببعيد تنبضُ ثقافةً وأدباً. في خمسينات وستينات القرن الماضي ورغم الانقلابات العسكرية المتوالية، فإنّ أحداً ما لم يكُن يتوقّع أن مدن المشرق التي عانت ما عانته حتى استقلالها وما تلاهُ من تجارب برلمانية وديمقراطية قد تقبَعُ فيما بعد تحت وطأةِ حكم الديكتاتوريات التي تسلطت عليها منذ سبعينات القرن العشرين. ففي النهار كانت شعارات الرّفاق الرنّانة تحيّي سيادة القائد الأخ المناضل المقاوم، فيما كان الأخ المقاوم يعود إلى بيته ليلاً ليضاجِعَ المحتل دفعاً لثمن بقائه، فلا ريب إذاً في التقارير التي ذكرت زيارة القائد الخالد لسفارتَي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قبل انقلابه السافر عام 1970، ولا ريبَ قبل ذلك في امتناعه عن التغطية الجوية لجنود رفيقه صلاح جديد الذين أرسلهم إلى فلسطين. ولا ريبَ أن يعقد السادات سلاماً في خضمّ الحرب يتلوه سلامُ إخوانهم في الأردن. ما أردتُّ قوله إنّه وبأعقاب استقلال بلاد مشرقنا عن قبضة المستعمر عاشت فترةً تذوّقت فيها طعم الديمقراطية، قبل أن تتسلّل ثُلّة من العسكريين إلى قصور الرئاسة، ولكي يدفعوا فاتورة بقائهم باعوا ضمائرهم وبلدانهم وقراراتهم ولعبوا اللعبة تماماً كما طُلِبت منهم، لقد حلّوا مكان المستعمر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ بل إنّه حتى المستعمر لن يجرؤ على اقتراف مجزرةٍ بحجم مجزرة حماة في سوريا، أو حلبجة في العراق، كان المستعمر بلا شك سيحسب حساب فورة بني جلدَتهم ثأراً لمآسيهم. لقد دمّر الجنرالات العسكريون هذه المدن نفسياً ومعنويّاً قبل حتى أن يهدموا حجارتها، فقد اعتقلوا أحرارها، وهجّروا عقولها المفكّرة، واتخذوا جميع قاطنيها رهائن متعتهم وتسلّطهم. لم تجلب الحكومات العسكرية لبلاد المشرق، ابتداءً بمصر وليس انتهاءً بسوريا، إلّا مزيداً من البؤس وضرب الاقتصادات المحلية بجنون تسليح الجيوش الحامية لحكمهم، ولكنهم نجحوا فعلاً في رسم صورةٍ لامعةٍ للاستقرار الهشّ لهذه البلدان، وصدّروها على أنّه "نحن أو العدم"، فإما أن يحكمونا بالسندان والمطرقة أو يُغرقونا بالقتل والدمار. وبخطى خبيثة صنَعت الدّمى التي كانت تحكمنا تحت أعين أسيادها في الغرب أسباباً تجعلنا في مؤخرة ركب التاريخ، وإذا خرجت هذه الدمى عن النص المرسوم لها بسبب جنونها بعظمتها، لم يفقدِ الغرب الحيلة من أن يتدخل هو بنفسه فيُعيد صياغة النصّ كما يودُّ إخراجه. لقد أراد إخراجه دموياً فوضوياً قابعاً في الجهل والظلام منشغلاً بثارات الحسين وقاتلاً لألوف الأرواح تحت راياتٍ سوداء لا تعي مطلقاً حضارةً ولا تاريخاً. ليأتي ما لم يكُن بالحسبان، ثورات الربيع العربي التي قلبت نظامهم عليهم، ولكنهم بمكرهم مرة أخرى وبسواعد أجرائهم من الجنرالات جارَوا المعطيات الجديدة، وأعادوا رسم ما بعدها، فأنتجوا أنظمة لا تقل وحشيةً عن سابقاتها في مصر وليبيا، وحوّروا أسباب الصراع في سوريا، فحوّلوا أنظار العالم من إرهاب الأسد الذي قتل ما يزيد عن نصف مليون لإرهاب ثلّةٍ مارقةٍ من صنيعهم تبانُ وتختفي حسب الطّلب، ولم يدّخروا جهداً في تغذية الفتن الطائفية في العراق وكذلك اليمن، مدعومين ببعض قاصري العقول وآلاف الأذرع الفاسدة التي مكّنوها من تصدّر القرار. إن الأنظمة الفاسدة التي تمكّنت من سدّة الحكم على أنقاضنا ومواجعنا لم تألُ جهداً من ضربنا ببعضنا؛ لكي تتمكن من سوقنا، وإن مخطط ضرب مكونات الشعوب ببعضها هو أخبث مخططٍ رُسم أبداً لمشرقنا، وهو أيسرُ طريقٍ نحو الفناء، فقد أوصلونا بالنزاع حقاً وحقيقة لنقطِ لا عودةٍ، ما لَم نتحامل على جراحنا ونثأرَ ممّن استخدم دماءنا عبثاً في سبيل مطامعه.. فيا قومي هل من مُدّكِر؟! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :