النسخة: الورقية - دولي غطى «بيان الكويت»، الذي اختتمت به القمة العربية الأخيرة، كل ما يمكن الاتفاق عليه في عالم العرب، من الدعوة إلى تحرير جزر الإمارات الثلاث التي تحتلها إيران، إلى تحرير جزيرة مايوت القمرية التي تحتلها فرنسا، ولكنه لم يهدد ولم يتوعد، ولم يلزم أحداً باتخاذ أي إجراء لتحقيق أي من المطالبات التي أحصيتها في 18 مطلباً قابلة للزيادة قليلاً أو النقصان بحسب قراءة المتلقي، بدا البيان وكأن مقرره جال في قاعة القمة الأنيقة وطلب من كل وفد أن يعطيه ما عنده من مطالب فصاغها في بيان واحد بعدما استبعد ما يمكن أن يؤدي إلى خلاف بين الإخوة والأشقاء وما أكثر ذلك. المهم أن تنجح القمة في ذاتها لا أن ينجح العرب، ذلك أن القمة ومن اجتمع هناك يعلمون أن هذا مستحيل، بل إن عدم حصول خلافات أو مواجهات كلامية في حد ذاته نجاح، فالجميع يعلم أن ثمة اختلافاً كبيراً بين الدول والزعماء، وقد رسمت خطوط تماس جديدة، تختلف عن خطوط تماس الستينات التي قسّمت العرب بين ملكيات وجمهوريات، أو بحسب تسمية الثوار «قوى تقدمية وأخرى رجعية». وفي السبعينات والثمانينات انقسموا حول «السلام مع إسرائيل»، فكانت جبهة الرفض في مواجهة قوى الاعتدال. وفي العشرية الأولى من هذا القرن حلّ معسكر الممانعة محل جبهة الرفض، واستمر هذا العبث حتى حلّ الربيع العربي، فاختلطت المعسكرات أكثر ولم تعد تبين، فؤجلت قمة ثم استؤنفت مسيرة «العمل العربي المشترك» ببعض التفاؤل، فدخلت إلى أروقتها مصطلحات الإصلاح، والمشاركة الشعبية، وتطلعات الشعوب والشباب، وحقوق الإنسان، والعمل والتنمية، ثم انتكس الربيع العربي، وعاد البعض القهقرى، فاختلطت خطوط التماس مرة أخرى، ولم يعد هناك معسكران بل معسكرات عدة، وزاد عدد الصامتين واللامبالين الذين ينادون سراً «نفسي... نفسي»، فهم يعلمون أن ما يحصل ما هو إلا مرحلة انتقالية نحو عالم مختلف لا يعلمون هل يكون خيراً أم شراً؟ هذه المرة نجحت الكويت بحكمتها في أن تمرر القمة بأمان، فهل تستطيع مصر أن تمررها بأمان العام المقبل؟ وهي مقبلة على قيادة جديدة وأعوام صعبة باعتراف رئيسها القادم الذي لم يفز بعد بالانتخابات ولكنه فائز بها بالتأكيد! لماذا نجح الاتحاد الأوروبي في المضي حثيثاً نحو «العمل الأوروبي المشترك» ونعجز نحن عن ذلك؟ المقاربة غير عادلة، ولكن يمكن حين إجرائها أن نسبر أسباب العجز العربي في بناء منظومة دائمة مستمرة للعمل العربي المشترك، هذا المصطلح الذي فرغ من محتواه، على رغم أنه لا يغيب عن كل بيانات القمم العربية، وتصريحات مسؤولي الجامعة العربية. دول الاتحاد الأوروبي بنت بنية فلسفية وقانونية تحتية مشتركة، ووضعت معايير للاتحاد لا تقوم على الجغرافيا، ولا على قومية أوروبية، وإنما على التشابه بل ربما التطابق في مسألة نظام الحكم الذي هو الديموقراطية، والتبادل السلمي للسلطة، وحقوق الإنسان، والقضاء العادل، ولم تقبل أيٌّ من دول الاتحاد الـ 28 فيه إلا بعد تحقيق الحد المقبول منها، بل شكلت برلماناً حقيقياً يجتمع بشكل يومي يعدّ جهة تشريعية ملزمة للجميع، وله أن يراجع تشريعات كل دولة، وثمة محكمة أوروبية لها أن تراجع التشريعات والحريات في الدول الأعضاء ويمكن التقاضي عندها، لقد كان للاتحاد الأوروبي ومعاييره الفضل في رفع منسوب الحريات والحقوق في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم فيها عام 2002، ويعتقد على نطاق واسع أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان استخدم ورقة الانضمام للاتحاد - الذي هو مطلب شعبي في بلاده لما فيه من وعود بمزيد من الرخاء - في تدافعه مع الجيش الذي كان مهيمناً على الحياة السياسية بتوسيع رقعة الحريات وإصلاح القضاء وإلغاء كثير من المواد المقيّدة للحريات في الدستور، حتى أعاد الجيش في النهاية إلى ثكناته تحت ذريعة الاستجابة لشروط الانضمام للاتحاد الأوروبي. هذه البنية «الفلسفية» المشتركة، هي التي مكّنت الأوروبيين من البناء عليها حتى حققوا أعظم إنجازاتهم عام 1993 باتفاق الاتحاد الأوروبي الذي ضمن حرية تنقل الأفراد، والسلع، والخدمات، ورأس المال، مع بقاء الدول وحدودها التي لم تعد سبباً للصراع، وأنظمة حكمها الخاصة، وجيوشها، وأحزابها السياسية، وضرائبها، وحافظ كل بلد على سياسته الخارجية «لم تتحمس ألمانيا مثلاً للتدخل في ليبيا عام 2011 ولكنها لم تمنعه»، ومع هذه الاختلافات وهذا التفرد يبقى دوماً حد أدنى مشترك في الالتزام بالحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة. هذه المفاهيم لم نتفق عليها بعد في عالمنا العربي، ونريد أن نقفز فوقها بأفكار نبيلة لتحقيق «عمل عربي مشترك» لا نستطيع تطبيقه على أرض الواقع، ولكن نرضي أنفسنا بعبارات فضفاضة حالمة. ولكن لم يعد ذلك مقبولاً للشعوب العربية التي بدأت بفضل الوعي وحرية الإعلام وقدرتها الجديدة على التعبير عن نفسها، تطمح إلى الأفضل، وتمارس انتقاداً للأوضاع القائمة، لم تعد الشعوب مستعدة أن تصفق للقادة وهم يدخلون متشابكي الأيدي إلى قاعة القمة، بل إنها ستصرخ فيهم، ماذا قدمتم لنا؟ أين هي حقوقنا، فحتى لا تصبح القمم العربية سبباً آخر للغضب والإحباط العربي، أجّلوها حتى ينتهي المخاض الثاني لعالم عربي آخر، يتطلع إلى فجر مشرق جديد. * كاتب سعودي
مشاركة :