النسخة: الورقية - دولي الاحد 23/3/2014: الحرب العالمية الاولى حق للأوروبيين أن يتذكروا الحرب العالمية الأولى في مئويتها (1914-1918)، هي الفاصلة الدموية بين عهدين من حضارتهم بأنظمتها السياسية والاقتصادية وبأشكال ثقافتها، وحق للأتراك أن يتذكروها لأنها كرست انفصالهم عن عهد إمبراطوري عثماني مديد لم يتحملوا مسؤولية تطويره، فتمزق شر تمزيق، وانتهت تركيا إلى عصبية طورانية تتغلف بالعلمانية ولا تدرأ خطر تفتتها بين ترك وكرد أو بين سنّة وعلويين. على ضفاف الأوروبيين والأتراك يتذكر العرب الحرب العالمية الأولى بأحمالها الثقيلة. - هشاشة السلطنة العثمانية، التي خسرت الحرب في الجولات الأولى تاركة مواطنيها وقد فقدوا معظم نخبهم على أعواد المشانق في بيروت ودمشق، أو على متن البواخر في هجرة بلا عودة، مع استثناء إقامة عدد من النخب في مصر الليبرالية، أبدعوا في مجالات عدة لكن مصر العميقة لم تتقبلهم على رغم ظهورهم الاحتفالي في الصحافة والمنتديات، وقد اختفى هؤلاء في ما يشبه السحر مع نزعة التمصير في خمسينات القرن الماضي التي «طردت» اللبنانيين بعدما ساوتهم بالجاليات اليونانية والإيطالية والفرنسية... - وسذاجة ما سمّي الثورة العربية الكبرى التي حصدت الريح من وعد بريطانيا بإقامة دولة عربية واحدة بعد انتصار الحلفاء، فالوعد البريطاني الحق كان للحركة الصهيونية بإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين مفرغة من سكانها الأصليين وفاصلة بين المشرق العربي ومصر. - وضياع نخب الدول الحديثة بين الحلم القومي العربي والواجبات الواقعية بإقامة مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية، فضاع وقت العرب في سجال الحلم والواقع، ليصل بهم إلى كتلتين صلبتين تتصارعان بلا نتيجة سوى الخراب، وهما: العسكر والإسلام السياسي. كتلتان لا تهتمان أبداً بالتنمية والتحديث والبحث عن مكانة في المجتمع الدولي وقضاياه المشتركة. عام 1917، قبل سنة من نهاية الحرب العالمية الأولى، كتب ميخائيل نعيمة قصيدة «أخي» المنشورة في مجموعته الشعرية «خمس الجفون». والقصيدة موجهة إلى اللبناني أو العربي الذي حصد الريح، أو بالتحديد حصر الخراب في حرب لا يد له فيها. ومما جاء في القصيدة: «أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله وقدّس ذكر من ماتوا وعظّم بطش أبطاله فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا بل اركع صامتاً مثلي بقلب خاشع دام لنبكي حظ موتانا. أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلاّنه فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا لأن الجوع لم يترك لنا صحباً نناجيهم سوى أشباح موتانا» > الاثنين 24/3/2014: الصم البكم لا يروعنا الآخرون. نحن الذين يُروّع بعضُنا بعضاً، ومنذ الطفولة. ويبدأ الترويع بأب يتخلص من ضغوط العمل والشارع بالصراخ داخل البيت (لا ينسجم الأب مع مجتمع متماثل تسوده أيديولوجيا واحدة، أو أنه يرغب بإخضاع المجتمع كله لأيديولوجاه فيعجز). يتبدل لون الطفل حين يزداد غضب الأب ضاغطاً أعصاب السامعين في الغرفة الضيقة. يتجمد لسان الطفل وتتعطل أذناه عن السمع، تماماً عندما يمتلئ فضاء الغرفة بالصراخ، كأن الصراخ العالي زجاج شفاف نرى ما خلفه ولا نتواصل. يفقد الطفل مَلَكَتَي السمع والنطق ربما لأن المحيط العائلي لا يتوجه إليه ولا يستمع إلى كلامه. كأن صراخ الأب الفاجر مسافة صاخبة بين مشهدين، العائلة الحضن والعائلة الحطام. الأطفال الصم البكم تائهون على طرقات المدينة الشرقية، ثم يكبرون ليواجهوا أهلهم باقتدار: يكسرون الصراخ الشفاف ويقتلون. أبناؤنا هؤلاء يروعون الإنسان في بلادهم، يقلقون إقامته، وغالباً يقتلعونه ليموت مجاناً أو يرحل إلى أي مكان متاح. المحاربون نحن والمسالمون نحن والضحايا نحن، فلماذا هذا الكلام الشاكي يطلب إنصافنا ويستجدي السلام؟ > الثلثاء 25/3/2014: المقامة الأرمنية تهجير الأرمن السوريين من مدينة كسب الساحلية عند حدود لواء الإسكندرون التركي، أعاد مأساتهم إلى الصورة، تلك المذبحة التي يبالغ القوميون الأرمن في عدد ضحاياها ويبالغ القوميون الأتراك في تقليله، لكن المذبحة حدثت حقّاً واندرجت في مآسي المشرق العربي والأناضول خلال الحرب العالمية الأولى. الأرمن الذين هربوا من المذبحة أو نجوا منها، توزعوا على العراق (وبعضهم ذهب إلى أبعد فالتحق بأرمن إيران، إذ لم يستطع الوصول إلى أرمينيا/ الدولة بسبب الفوضى التي رافقت وأعقبت الثورة الشيوعية ونشوء الاتحاد السوفياتي)، كما توزعوا على سورية ولبنان ومصر، ووصل بعضهم إلى السودان وأثيوبيا (كان الحلاق الأرمني مقابل مبنى «الحياة» في لندن يردد أنه أتى إلى بريطانيا من السودان حيث تقيم جالية أرمنية). وتكيف الأرمن في البلاد العربية التي استضافتهم ونشطوا في الصناعة والفنون، وقلما اهتموا بالسياسة، كونهم حديثي العهد في مجتمعاتهم الجديدة. وقد تقبّلهم الوسط العربي بل أعجب بهم في أحيان كثيرة، و «اكتشف» البعض هجرات أرمنية إلى المشرق العربي قبل المذبحة فذكروا منهم نهضويين، في مقدمهم رزق الله حسون الحلبي وأديب إسحق الدمشقي. لكن صديقي في اللاذقية حين استقبل أصدقاءه النازحين من كسب، ذكرني بـ «المقامة الأرمنية» لبديع الزمان الهمذاني (969 - 1007)، إذ نقرأ فيها واحدة من مغامرات أبي الفتح الإسكندري في أرمينيا واحتياله للحصول على الخبز ووقوعه ضحية طعام مدنس يوزع على العابرين. وتذكر مصادر مشكوك بصحتها، أن يحيى بن محمود الواسطي صاحب اللوحات التجسيدية العربية الأولى التي تنسب إلى رسام معين، هو من أصل أرمني، كونه رسم هالة على رأس الإنسان في بعض لوحاته لمقامات الحريري (محمد الحريري البصري 1054 - 1112)، ما يعني صلة فنية أو دينية بالأيقونات الأرمنية الأقرب إلى البيئة العراقية حيث نشأ. ونعود إلى الأرمنيين رزق الله حسون الحلبي، الذي مات مسموماً في لندن بتدبير من سفير السلطنة العثمانية هناك، والى أديب إسحق صاحب «الدرر» ومنشئ جريدة «مصر» سنة 1877، وكان اسمه الأرمني أديب زلماتيان. وقد أطلق اسم إسحق تقديراً على شوارع في الإسكندرية وبيروت وعمّان. صادق أديب إسحق في عمره القصير (29 عاماً) عدداً من أعلام النهضة في مصر، كما التقى في رحلة إلى فرنسا كتّاباً، من بينهم فيكتور هيغو، الذي ترجم له إسحق قصائد ونصوصاً، اشتهر منها هذا القول المترجم عن هيجو والذي ينسب إلى إسحق: «قتلُ امرئ في غابة جريمة لا تغتفر. وقتلُ شعب آمن مسألة فيها نظر». أرمن مدينة كَسَب أشعلوا ذاكرة المأساة الأرمنية، وليس بول غيراغوسيان الأرمني الفلسطيني اللبناني حياً ليندرجوا في أعماله التشكيلية، تلك التي تختصر فنياً حركة الإنسان الشرقي المأسوية والتفافه في إطار العائلة طالباً حناناً ومحتفظاً بما تبقى من تراث.
مشاركة :