مقولةُ أنّ التاريخ يُعيد نفسه، تبدو في غالب الأحوال صحيحة، على رغم الإشكالية التي تُحيطُ بها أحياناً. تبرز أحداث، تذكّرك، حتماً بأحداثٍ مضت، مع تغيير بعض اللاعبين على المسرح السياسي وثبات آخرين. من يذكُر ما سُمّي «ربيع براغ»؟! كان ذلك عام 1968، قبل 48 عاماً. حين انتخبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيخوسلوفاكي ألكسندر دوبتشيك، أميناً عاماً للحزب. ومع حرصه وتأكيده على روابط «الأخوة» مع الحزب/ المركز في موسكو، رفعَ دوبتشيك لواء الإصلاح، ودعا إلى مزيدٍ من الخطوات باتجاه الليبرالية وتعدّد الآراء، مؤكداً على الدور الرائد لحزبه في هذا المجال. سعى دوبتشيك إلى اشتراكية تضمن حرية الدين والصحافة والتجمّع والسفر. باختصار هدفَ إلى اشتراكية تؤمن وتعمل على تكريس حقوق الإنسان، لإزالة أوجه التسلّط الحزبي والاستخباري التي كانت سائدة في تشيخوسلوفاكيا وسائر دول ما كان يُسمّى أوروبا الشرقية. لقيت دعوة دوبتشيك آذاناً صاغية، وقبولاً، بل تشجيعاً، من معظم فئات الشعب، فأُطلقَ على تلك الإصلاحات ما سُمّي آنذاك «ربيع براغ». لكنّ موسكو بريجينيف لم يرق لها ذلك. فقرّرت وأد «ربيع براغ»، بالإيعاز إلى قوات حلف وارسو بغزو تشيخوسلوفاكيا في 20 آب (أغسطس) 1968. تبع ذلك، تجريد دوبتشيك من صلاحياته وإرساله إلى إحدى الغابات ليعمل... مأموراً لها! (تُرى ما هو مصير الأسد؟). وتجميد وإلغاء الإصلاحات التي كان الشعب التشيخي يعمل على تحقيقها. ارتبط وأد الانتفاضة التشيخية، بحادث مؤلم، استرعى يومها انتباه العالم. ففي 19 كانون الثاني (يناير) 1969، أضرم طالب النار في نفسه في ساحة في براغ احتجاجاً على الغزو. تُرى ألا يُذكّرنا «غزو» الآلة العسكرية الروسية حلب مدعومةً بقوات نظام الملالي وميليشياته في طهران، بما حدث قبل 48 عاماً في تشيخوسلوفاكيا؟! فقبل الغزو الروسي لتشيكوسلوفاكيا استُدعي دوبتشيك الى موسكو وأُفهم ان إصلاحاته غير مقبولة جملة وتفصيلاً. وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، فلقد حدث الشيء نفسه مع الأسد حين استدعي الأسد بمفرده الى موسكو في حزيران (يونيو) 2016، وأُفهم أن القيادة العسكرية منذ تلك اللحظة أضحت لموسكو وأن وزير الدفاع الروسي شويغر، هو بول برايمر العراق!! بعدها سرّبت موسكو خبراً عن اتفاقية وقّعها الأسد، تُكرّس فيها موسكو وصايتها على دمشق، أقل ما ما فيها أنها تنتقص من سيادة سورية واستقلالها (لعل ذلك يذكرنا بمعاهدة «الأخوة والتعاون» بين لبنان وسورية والتي وقّعها الأسد الأب والرئيس الراحل الياس الهراوي عام 1993). أسارع إلى لَحظِ فارق كبير، ففي حين أضرم شخصٌ واحدٌ النار بنفسه احتجاجاً على الغزو الروسي فإنّ الآلاف من السوريين الأبرياء ماتوا حرقاً وقهراً نتيجة البراميل المتفجّرة والقنابل الفوسفورية التي قذفت بها طائرات النظام السوري بعد غض نظر موسكو والعالم! المقاربات متعدّدة مع بعض الفروقات. مطالب الثورة السورية لم تختلف عمّا طالب به الشعب التشيخي عام 1968! حرية الإنسان وكرامته! بطبيعة الحال، الغازي هو نفسه: موسكو. مع الفارق أنّ موسكو اليوم، هي موسكو بوتين بدلاً من موسكو بريجينيف، الذي كان يقودُ «كومنترن» شيوعياً. الفارق أيضاً أن الذي غزا حلب وسورية أيضاً (إضافةً إلى العراق) هو «كومنترن» شيعي لا شيوعي هذه المرّة، بدعم من موسكو! فلقد نقلت الصحف أنّ الاحتفالات عمّت في طهران «بتحرير حلب» («الحياة» 15/12/2016). ولعل صورة رئيس الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني وهو يتفقد دمار حلب أبلغ دليل على ذلك. ولعل قدرنا ان ننتظر الكثير ذلك اليوم - الذين لن يأتي «!!» - لنرى سليماني يتفقد القدس العربية، نحنُ أمام «شيعية سياسية» يرفع لواءها الملالي في طهران، غير آبهين بالنسيج الديني للعالم العربي، وغير مكترثين باحترام مبدأ حُسن الجوار. بل عازمين على العبث بأمن الإقليم تكريساً لقناعاتٍ دينية لا تمُتُّ إلى المنطق والواقع بصلة. ومع الأسف، فإنّهم يفعلون ما يفعلون ويرتكبون ما يرتكبون من مجازرٍ ومآسٍ رافعين راية سيد الشهداء، سيدنا الحُسين، رضي الله عنه، وهو البريء من أفعالهم. عام 1968 كان الصراع في تشيخوسلوفاكيا بين الشيوعيين والليبراليين. أمّا اليوم فالذي أراه، وأنا علماني التوجُّه وعربي الانتماء، فهو مع الأسف الشديد وبكلّ أسى، صراعٌ بين «الشيعية السياسية» التي تقودها طهران وبين سائر المكوّنات الدينية، كي لا أقول... السنية. صراع مع الأسف، يسيء الى كنه الإسلام ووحدة المسلمين! ويا ليتهم يعملون على تطوير في فكرهم من خلال اعتبار الحُسين فادياً ومُخلّصاً، وتنزيهه ثانياً عن المُطالبة بالثأر، لا لأنّ فكرة الثأر لن تمنح السلام لعموم المنطقة، وإنّما لأنّها لن تمنح السلام لحامليها أوّلاً (عمر قدور، «متى يُصبح الحسين الفادي المخلّص؟»- مجلة المُدن الإلكترونية في 4/11/2014). كان في إمكان الرئيس فلاديمير بوتين أن يلجأ إلى القوة الناعمة لتحقيق مصالح بلاده عبر فتح قنواتٍ مع أركان المعارضة السورية والتواصل معها، علماً أنّ الثورة السورية بدأت واستمرّت لأكثر من عامٍ سلمية قبل أن يعمل النظام على عسكرتها وشيطنتها. ولكن يبدو أنّه متأثّرٌ بما يُسمّى «الأوراسية Eurasianism»، وهي أيديولوجية جديدة، تتأسّس على مبدأ استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية والانتقام من القوى الغربية التي تآمرت على الاتحاد السوفياتي وأودت به. وقد وصف أبو «الأوراسية» الفيلسوف والمفكر ألكسندر دوغين، المعركة بين روسيا والغرب بصراع ملحمي مع المادية الأميركية. ويبدو أنّه كان على سورية الدولة والشعب أن تدفع الثمن من لحم أبنائها لتعزيز وتكريس مكانة روسيا في وجه أميركا والغرب من خلال عرض العضلات العسكرية واللجوء إلى القوة. ولعلّ السيد بوتين يدري أو لا يدري أنّ من نتائج الغزو الروسي العسكري حلب وسورية وأد «الربيع السوري» وزيادة التطرُّف الإسلامي السني، الذي كلّنا بغنى عنه! علماً أن التطرف السني حاجة إيرانية. لا يمكن أيضاً فصل البطش الروسي العسكري على حلب وسورية (والذي مُورس قبل ذلك في غروزني والشيشان) عن الشمولية والتسلطية التي طبعت السياسة الروسية منذ سقوط زمن القياصرة... فلا يغرنك مجلس «الدوما» الذي لو كان فاعلاً، لكبح قرارات بوتين، لكنه مجلس لا حول له ولا قوة، يذكرك بمجلس الشعب السوري! أمّا ادّعاء موسكو ومعها طهران وبقايا النظام السوري، بأنّهم يُحاربون التكفيريين، فقد ثبُتَ بُطلانه. فهم حاربوا ويُحاربون الثورة السورية. وكان الأولى بالروس وطهران دعم الجيش السوري الحر، الذي تصدّى لـ «داعش» التنظيم الإرهابي المتوحش. علماً أن أكثر من تقرير أشار إلى أنّ الجهات المعنية الاستخبارية في روسيا، سهّلت هروب من يُسمّون بالإسلاميين في القوقاز والشيشان، وعملت على تسفيرهم إلى العراق وسورية. وهذا أيضاً ما فعله النظام السوري حين عَمِلَ على إخراج المتطرّفين مـــن سجــــونه بهدف عسكرة الثورة السورية... إضــــافةً إلى أنّ أسباب نشوء «داعش» باتت واضحة ولا ضــــرورة لاستعراضها منعاً للتكرار، بل تكفي الإشارة إلى الغزو الأميركي إلى العراق وما نتج منه. ثمّ أنّ الثابــت أنّ طهران آوت عناصر رئيسية من «القاعدة» الـــذي أنجبَ «داعش»! إن التناغم الروسي الايراني لم يشكل مانعاً لاستيعاب المطالب الاسرائيلية من الروس. وإلا، فكيف كان بالإمكان إغتيال ثلاثة من أهم القادة العسكريين لـ«حزب الله» على الأراضي السورية (سمير القنطار 19/12/2015، مصطفى بدر الدين 14/5/2016، وعماد مغنية 12/2/2008) لولا التنسيق الاسرائيلي الروسي في ضوء سيطرة موسكو على الأجواء السورية؟ ومن المؤسف أن بيانا من «حزب الله» لم يصدر تنديداً بالتواطؤ الروسي. نجحت موسكو ومن معها في وأد «ربيع حلب» وربّما في وأد «ربيع سورية»، وهو فصلٌ من فصول الربيع العربي. والحق يُقال بأنّ الربيع العربي لم يبدأ بعد. ما شاهدناه يمكن وصفه بمرحلة «ما قبل الربيع العربي» Pre-Spring Era، حيثُ لا بدّ للمسيرة أن تواجه عثراتٍ ومطبّات وإخفاقاتٍ مُتعدّدة. الربيع العربي سوف يلوحُ في الأفق حين يتمّ تثبيت دعائم الديموقراطية وإعادة الروح إلى المؤسسات المدنية وتمكينها. فالديموقراطية الأوروبية، على سبيل المثال لا الحصر، لم تستقرّ إلاّ بعد مرور مئة عام من الثورة الفرنسية عام 1789. إنّ أحد أهم إنجازات ما قبل الربيع العربي، يكمُن في إحداثه قشعريرة سرت (ولا تزال تسري) في جسد الأمة الميت. قشعريرة مصيرها أن تغدو لاحقاً تياراً شعبياً يصعق ويزلزل الوضع القائم بهدف تأسيس قاعدة شعبية تعمل على تعزيز المؤسسات المدنية والحياة الديموقراطية، إضافة إلى إيجاد الوعي بضرورة التغيير والانعتاق من العبودية السياسية والاقتصادية التي مورست من قبل أنظمة كالنظام السوري. سقطت حلب. لا داعي للمراثي. (حلب، مأساة أهلها، ولا معنى للكلام على حكم التاريخ والانهيار الأخلاقي»... (محمد علي فرحات، «الحياة» 15/12/2016). لا داعٍي للدموع. يحضرني قولٌ مأثور لمؤسّس الحزب «السوري القومي» أنطون سعاده– والذي أختلف مع مبادئه السياسية– «ليسَ العارُ أن نفشل، بل العار أن يحولنا الفشل من أقوياءٍ إلى ضُعفاء...!». إنّ سقوط حلب بيد الغازي الروسي/ الإيراني، يجب أن لا يُهبط العزائم، بل أن يجعل الأحرار أكثر قوة لمواجهة التطورات المرتقبة. وبالتالي، فالواجب العمل حثيثاً لتأليف «خلية أزمة» تجمع الأطراف المحليين والدول الإقليمية الداعمة، إضافةً إلى من يؤيّد الثورة السورية في العالم، لوضع استراتيجية جديدة تستجمع القوى بهدف وضع خريطة طريق تُحقق هدف الثورة السورية. لقد نجحت موسكو في وأد «الربيع التشيخي» قبل 48 عاماً، لكنّ الأمر لم يطل كثيراً حتى انهارت المنظومة الشيوعية الديكتاتورية في أوروبا الشرقية، ومن ضمنها تشيخوسلوفاكيا. وإذا نجحت موسكو اليوم في وأد «ربيع حلب» بل ربما «ربيع سورية»، فلن يطول الوقت ليبزغ فجرٌ جديدٌ على سورية بهمّة الأحرار. فالمسيرة طويلة. لكنّ الثورة، ثورة الأحرار، لن تفشل في النهاية. كيف تفشل... «وسورية بدها حرية؟». * كاتب لبناني
مشاركة :