حركات الإسلام السياسي تتاجر بالدين والدولة مدنية في أصلها

  • 3/29/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يكتب أستاذ الشريعة والقانون في جامعة قطر الدكتور عبدالحميد الأنصاري بلغة نقدية تصالحية، بمعنى رغم أنه ناقد بحس أخلاقي يحول الحروف والأفكار إلى طاقة من الأسئلة الشفيفة الهادئة؛ لأنه تعهد أن يتصدى للظلام الخالق حول نفسه تضاريس لا تتواءم مع طبيعة الحياة، وبحكم دراسته الشرعية والقانونية، فإنه يتبنى القراءة المتجددة بحكم أن لكل مقولة زمانيتها ومكانها ما يفرض استنبات مفاهيم جديدة تلائم العصر، وهنا سياق الحوار الذي بدأ منذ أيام ولم ينته بعد بحكم توليده مشروع أسئلة لا أبعاد ولا نسب لها: • هناك من يحمل الدين مسؤولية ما يقع من إشكالات من المتدينين؟ الدين كما أنزله الله هداية للإنسان إلى السبيل الأفضل، وحل لمشاكل الإنسان وحل للصعاب التي تعترض طريقه في إقامة علاقة طيبة مع الله ومع الإنسان والبيئة، ونحن في السياق الحالي نرى التدين كممارسة مجتمعية أصبح إشكالا كبيرا ويقف وراء كل الإخفاقات وما نعانيه من عمليات عنف وتكفير وصراع دموي على السلطة، بل أصبح معوقا يحول دون اللحاق بعالم المزدهرين، وهذا سؤال كبير ينطلق من الفهم الضيق للنص ما يحول الدين إلى إشكال، ولن يكون حلا إلا بإتقان فهمه واستثمارنا له استثمارا إنسانيا يحقق السعادة والازدهار. • هل مر الدين كممارسة بانحرافات غيرت مساره الرباني؟ لا ريب أن فهم الدين ومقاصده تعرضت لانحرافات ، ومر الدين ــ كفهم وممارسة ــ بمنعطفات لعبت السياسة فيها لعبتها، وكانت الإمامة والسلطة محور نزاع وخلاف، كون حب السلطة وما يرتبط بها من غلبة وغزو وغنائم موروثا عربيا منذ ما قبل الإسلام، وقد يكون هناك ما يبرر لهذا العنف نتيجة شح الموارد والبيئة الصحراوية، فجاء الدين للتهذيب ونزع ما في نفوسهم من غل وعصبية، إلا أن الموروث والتقاليد لها دورها كونها ذات سطوة أقوى، فهي ترسبات بقيت في النفوس، والقبلية والتعصب موجودان ولم ينتهيا وربما للجينات الوراثية دورها، ونحن قرأنا كيف أن العربي يسلب أخاه ويقتله بسبب الطمع في جاه ومنصب، بل وتجرأ البعض على الكعبة المقدسة، والانحراف غالبا وقع من رأس السلطة ولكن المجتمع الإسلامي بقي يتحاكم إلى الدين وينتمي إليه، انحرف الرأس وبقي الجسد ممثلا في العلماء والمربين والفقهاء والأخلاق الإسلامية تقاوم وتكافح، ونجحت في أن تنجو من انحرافات السلطة وما نراه اليوم من أخلاق إسلامية هي ببركة جهود المصلحين عبر التاريخ، ولذا نسلم بأن السلطة سبب في انحراف مفاهيم الدين والصراع على الحكم أذاب مفاهيم وقيما دينية أصيلة، ولعلنا نسلم بأن التسلط والاستبداد هو امتداد لما انغرس في الأذهان من أعراف ما قبل الدين. • لماذا يتصدى المجتمع للفكر التنويري؟ هناك إشكالات عدة يمر بها المجتمع، وربما أنه في أزمنة المآسي لم يعد هناك فرق بين من يريد الإصلاح ومن يريد السلطة، فحرص المجتمع في مراحل معينة على رفض التحديث والتجديد بل وحتى الاجتهاد هناك من أباه ووقف مع قفل بابه، وهذا يرتبط بوعي الناس، ولكن العصور التنويرية هي عصور التحديث والتجديد والاجتهاد والترجمة وحرية التعبير، والانفتاح على الآخر، خصوصا على أوروبا من خلال الأندلس، ومنذ فتنة أحمد بن حنبل أصبحت العقلانية مشوهة وحوربت الفلسفة وبرزت مقولات منها من تمنطق تزندق، وليس جديدا تشويه سمعة المصلحين والتنويرين عبر العصور، علما بأن القرآن عاب الذين قالوا (إنا وجدنا آباءنا على أمة)، كون هذا القول يعطل طاقات المجتمع وينكس الأمم إلى التقليد والجمود حتى جاءت الصدمة الحضارية من الغرب فبرزت أسئلة التخلف. • ما علاج ما نحن فيه من أزمات؟ الوقفة الشجاعة مع النفس ونقد الموروث وعدم تقديس الأقوال وإعمال العقل، ولن تتجاوز مكانك وأنت مقتنع بما أنت فيه، أو أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، كما أنه لا تنمية ولا وعي ولا تقدم إلا بالنقد الذي أسس له القرآن (قل هو من عند أنفسكم) و( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ولا تغيير إلا بنقد التصورات والمفاهيم والموروث بحثا عن الأفضل من خلال إعمال العقل في الواقع وقراءة الأزمات وتوفير مخارج وحلول وبدائل. • كيف نرد على من يعتبر نقد الموروث نقدا للنص الديني؟ المفكر والمثقف المعرفي لا ينتقد النص المقدس بذاته، وإنما ينتقد الفهم المغلوط والاستيعاب المحدود والتضييق والحجر في الفهم وتقديم الرؤية الواحدة، والتاريخانية ليست مذمة كون بعض السياقات النصية أدت دورها بفهم زمنها، والقرآن يتحمل القراءات المتجددة، فالفهم متحول وليس ثابتا، ومتعدد وليس واحدا، والفهم الماضوي لا يمكن أن يعالج أو يحل إشكالات الحاضر، فالتقادم الزمني بفهم قاصر يظلم النص الديني ويظلم المسلمين، والقرآن ضد التقليد ومع إعمال العقل والاستنباط، بمعنى أن لا تتقبل وتسلم ما جاء من أسلافك إلا ما وافق العقل وانسجم مع روح الشرع وما توارثناه من آبائنا وأجدادنا معظمه تقاليد وأعراف وقيم مجتمعية أسهمت في تشكيل الوجدان، والتطرف والإرهاب نتاج هذا الخلط والانزياح بعيدا عن الفهم الموضوعي والواقعي للنص. • من يرفض التجديد في فهم الدين؟ المستفيدون من وضع قائم غالبا ما يتصدون للتجديد ويتذرعون بمخافة الفتنة والوقوع في مزالق ومهالك، إلا أن سنة الله تتمثل في التغيير، ومن الطبيعي أن يرفض المجتمع، فالناس تتصالح مع ما هو سائد والجديد عندهم غزو وحالة طارئة وميكروب أو فيروس، ولكن أصحاب المشاريع الفكرية عليهم ألا ييأسوا وهناك مجتمعات رفضت الأنبياء بكل ما لهم من قداسة وعصمة، فمن باب أولى رفض المفكرين، إلا أن الزمن كفيل بتبني الأفكار النيرة النابعة من منطلقات خيرة وطرح عقلاني، ونحن في قطر في الثمانينات كان هناك موقف من عمل المرأة وقيادتها للسيارة وكان الرفض هو الغالب، وخلال عشرين سنة تغيرت الأمور كليا وأصبح ما كان مرفوضا مقبولا. • كيف تقرأ حركات الإسلام السياسي؟ الإسلام السياسي إشكالي، كونه يوظف الدين لمكاسب سياسية، وتوظيف الدين للسياسة وإن حسنت النيات إلا أن السلبيات أكبر؛ لأن طرح الشعارات للوصول للسلطة سيوقع في تسييس الحياة بأجمعها لأن رموز الإسلام السياسي يسعون للإمساك بمفاصل يوميات الناس، فالدين بنقائه ومكانته الخالدة لا يمنع أن نأخذ الطب من مظانه، والهندسة من أهلها، ورجال الدين الأتقياء يزهدون في السلطة ولا يبحثون عن مغانم ومنافع، بل هم للزهد أقرب كون هاجسهم خدمة الناس، ولأحد الحكام مقولة «الدين طير حر من أمسك به قنص»، فالطير اليوم قد يكون معك وغدا مع غيرك، ويمكن أن نقبل المتاجرة في كل شيء إلا الاتجار بالدين، فهو ملك جمعي لكل الناس، فالوطن يجمع المواطنين تحت مظلة الدولة ونظامها وقانونها، أما الدين فهو مشترك بين أصحاب الملة، كما أن القيم الإنسانية والعقل الأخلاقي مشترك بشري، وتيارات الإسلام السياسي تنتقد الحكومات وتتهمها بالعمالة للغرب، وظهر اليوم الأمر جليا أن الإسلام السياسي يعمل مع الغرب ويتقاطع مع أدبيات غير إسلامية ولا أخلاقية ويعطون أنفسهم مبررات لا يعطونها لغيرهم، فتيارات الإسلام السياسي ليست إضافة إيجابية في العمل السياسي وبناء الدولة المدنية، وإن كان لبعض مفكريهم آراء تنويرية إلا أنهم سقطوا عندما بدأ فرز المجتمع إلى معنا وضدنا. • كيف نرسم ملامح آمنة لمستقبلنا؟ نحن اليوم نعيش في عالم يسعى للتقارب والتعاون وإزالة الحواجز بين شعوبه؛ لتعزيز المشترك الإنساني والأخلاقي والديني ممثلا في الإيمان بالخالق ــ عز وجل ــ والعمل الصالح والقيم المشتركة وحقوق الإنسان وكرامته، إننا نعيش اليوم في عصر يواجه فيه البشرية، تحديات عديدة، تتطلب من أصحاب الأديان والحكماء وأهل الاعتدال والعقلانية جهدا مشتركا لمواجهتها، وصولا إلى عالم أفضل وأسعد، هناك نزاعات ملتهبة في بقاع كثيرة من عالمنا، وهناك صراعات دموية على امتداد الساحة العربية تحصد أرواح أبرياء كل يوم باسم الدين، والدين منها براء، وهناك طغيان القوي على الضعيف، وهناك أوضاع مأساوية تعيشها شعوب والملايين من اللاجئين والنازحين، وهناك استغلال واتجار بالبشر، وهناك تخوين وتكفير ومنابر وقنوات تغذي الكراهية والتحريض والفرقة، وكل ذلك يضاعف من مسؤولياتنا ويذكرنا بواجبنا الإنساني والأخلاقي والديني، وأتصور أن ذلك الواجب يتحقق بالجهد المشترك نحو إيقاظ الضمير الإنساني وتفعيله، ومثل هذا اللقاء الحيوي، وفي ظلال أجواء هذه الموسوعة الكبرى، مناسبة طيبة لبث رسالتنا الأخلاقية لمجتمعاتنا وللعالم. • هل الدولة في الإسلام مدنية أم دينية؟ ــ إلى اليوم، لم يتمكن المسلمون من التوصل إلى اتفاق شامل لتصوراتهم حول «الدولة الإسلامية» المنشودة، التي تجمع بين مقومات الدولة المدنية وتعتمد مفهوم المواطنة المتساوية والشاملة لجميع أبناء الوطن دون أي فروقات أو تمايزات، وفي الوقت ذاته ترتبط ارتباطا وثيقا بهدي السماء وثوابت الدين وقيمه السامية، في تصوري أن هذه الضبابية في التصورات السياسية للدولة المنشودة، مردها بشكل جوهري إلى حصول نوع من الخلط والتداخل بين قضيتي سند الشرعية للسلطة الحاكمة في المجتمع الإسلامي، وقضية النظام القانوني الشرعي الذي يخضع له المجتمع الإسلامي، والدولة الإسلامية، دولة مدنية بامتياز، ولا أدل على ذلك مما حصل في أول اجتماع لاختيار الخليفة في السقيفة، حيث لم يثبت ــ على الأقل عند أهل السنة ــ أن أحدا ادعى أنه معين أو مرشح من قبل الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ للحكم، ولقد حسم الإمام محمد عبده هذه القضية في كتابه الشهير (الإسلام والنصرانية) عندما قال ليس في الإسلام ما يسمى عند القوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولا يجوز الخلط بين الخليفة عند المسلمين وما يسميه الإفرنج بــ«الثيوقراطي»، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة بل بمقتضى حق الإيمان.

مشاركة :