العلم يقول حقائق نتجاهلها فيدب العطب في حياتنا البشرية، وننسى غالبا أن الحماسة والتفاؤل هما حالتان تنتشران بين الناس كالعدوى. العربلطفية الدليمي [نُشرفي2016/12/24، العدد: 10495، ص(15)] في مشهد عالمنا المضطرب يتساءل كل إنسان ذي ضمير: ماذا بوسعي أن أقدم للبشرية وهي تتجه نحو الجنون؟ وماذا بوسعنا كجنس بشري أن نفعل لإنقاذ العالم؟ وكيف نواجه حتمية الكارثة وفقدان السعادة وغياب المعنى؟ يتفق علماء نفس ومفكرون ومتخصصون بالبيئة وشعراء رؤيويّون وكتّاب مع البراهين العلمية التي أثبتت أن في أعماق الجنس البشري توقا راسخا للتواصل وأن الطبيعة البشرية تقوم على التعاون لا التنافس المفضي إلى اشتداد الصراع. وثمة مسألة أخرى تعمل على تدمير أرواحنا إضافة إلى لهاث التنافس، وهي اضطرارنا -من أجل ضرورات العيش- إلى القبول بوظائف وأعمال لا تستهوي أفئدتنا ولا تحقق طموحاتنا وتتعارض مع رؤيتنا لذواتنا ومعنى وجودنا في الحياة فنحاصر بين رفض يتفاقم وضغوط تتوالى ولا يسعنا الخلاص. نعلم جميعا أن الجوانب الإيجابية المشتركة لدى الجنس البشري سوف تتضاعف وتنمو معها الروح الإنسانية في حال وجود التواصل والرحمة واعتناق المحبة التي تعد الكلمة السحرية التي تجنب البشرية أهوال العنف والصراعات، ولأهمية كلمة المحبة ودورها الأساسي في إدامة الحياة أوردها داروين في كتابه “أصل الانسان” خمسا وتسعين مرة بينما ذكر كلمة “البقاء للأصلح” -التي تحيل إلى صراع الكائنات الحية- مرة واحدة فقط؛ غير أن الكثيرين أساؤوا فهم نظريته عندما ركزوا على الجانب التنافسي للبقاء وتناسوا مفردة المحبة. يقول العلم حقائق نتجاهلها فيدبّ العطب في حياتنا البشرية، وننسى غالبا أن الحماسة والتفاؤل هما حالتان تنتشران بين الناس كالعدوى وتنتقلان بالمجاورة والمصاحبة وتتفشيان بين القلوب المتأهبة للتواصل، وقد أثبتت لنا حقائق الكون الأساسية أننا جميعا مرتبطون متواصلون مع بعضنا ومع جميع الأشياء من حولنا في كوننا الشاسع وأن قوة الجنس البشري الحقيقية تكمن في قدرته على إنجاز المهمات المعقدة كجماعة عبر التعاطف والتعاون والحوار وبوسعنا تغيير ما حولنا لو دأبنا على تطوير قدراتنا وتغيير أنفسنا، فلا يسعنا تغيير شيء في عالمنا ما لم نجرؤ على معاينة مواقفنا ونقدها ومن ثم العمل الدؤوب على تغييرها. أذكر هنا تجربة المخرج الأميركي الثريّ من أصول عربية توم شدياك الذي تعرض لحادثة دراجة أدت إلى كسر ذراعه وإصابته بعوق كاد يصبح دائما، وأصيب بمتلازمة ما بعد الصدمة التي تفضي إلى الاكتئاب والاضطراب وقد تودي بصاحبها إلى الانتحار، ولفرط معاناته وتفكيره بالموت باعتباره الشافي الوحيد لآلامه توصل إلى اتخاذ القرار واختيار الموت لإنهاء عذابه وخلال تلك اللحظات الفاصلة تساءل “لو اخترت الموت فعلا فما الذي أريد إبلاغه للعالم قبل رحيلي؟ أنا ثري جدا وأشعر أن المال ليس من حقي لأنني كسبته في ظل نظام الاقتصاد التنافسي الذي يدمر عالمنا بطريقته الخاصة وقد أثبتت الطبيعة للمليارات من السنين أن لا أحد ولاشيء يأخذ أكثر من حاجته الحقيقية، وفي ثقافتنا المعاصرة يأخذ الناس أكثر من حاجتهم فيقتنون البيوت الفارهة والسيارات الثمينة وأنا واحد من هؤلاء الذين يعيشون أكذوبة السعادة الوهمية مثلي”. بغتة غمرته حالة استنارة روحية بحثا عن المعنى في حياته، فباع ممتلكاته وطائرته الخاصة وتبرع بما يملك لمؤسسات خيرية ومدارس ومستشفيات واكتفى بكوخ صغير في غابة وشعر أنه استرد صحته وإنسانيته وتجاوز محنته، وصنع فيلما تسجيليا عن تدهور الوضع البشري وأسبابه، طرح فيه تساؤلاته البسيطة والعميقة “من أنا وما الذي أبتغيه من الحياة؟”، وأجاب “الحل أني لن أتنافس ولن آخذ أكثر من حاجتي”. كاتبة من العراق لطفية الدليمي :: مقالات أخرى لـ لطفية الدليمي تواصل أم تنافس؟, 2016/12/24 الجمال يلهم ولا يخدع , 2016/12/11 مربية اللص ومرضعة الملاك, 2016/11/30 العشاق.. حكماء أم حمقى, 2016/11/27 ديمقراطية اختيار التفاهة , 2016/11/20 أرشيف الكاتب
مشاركة :