النسخة: الورقية - سعودي عقيدة الكف عما شجر بين الصحابة تعد من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، على رغم أنها مسألة «تاريخية وثقافية وفقهية» في ذات الحال، بمعنى أنها «زمنية لا روحية»، لكنها رحّلت إلى المجال العقائدي حتى تندرج في المقدسات التي يحظر استعادتها مثل حال كثير من مسائل العقائديات والأصول التي تعد ثوابت لا يحركها الزمان والظرف والمتغير على رغم أنها ليست ضمن العقائديات والأصول. إدغام مسألة ما شجر بين الصحابة في ترسانة العقيدة وغيرها من مسائل فقهية وتاريخية وسياسية منهج تكاثف عند أهل السنة كما عند الشيعة ومذاهب إسلامية أخرى نتيجة المناكفات بين المذاهب لحال المظاهرة والمنابذة ورسم الحدود المذهبية الفارقة، ما نشأ عنه مع متوالية الأيام وتوالي الإضافات والمزايدات تشكُّل وتباين المذاهب التي أضحت تتباعد في الأصول إلى مرحلة القطيعة التي حولتها لمذاهب كأديان مستقلة. مسألة الأحداث والصراعات التي شجرت بين الصحابة من المسائل المزلات، والتماس معها ونقدها يعتمد على منهجية وخلفية مشرب ومشيئة من يخوض فيها، فثمة تباين بين القارئ التبجيلي والقارئ غير التبجيلي «من يحكي عن الصحابة من دون توقير»، والقارئ الناقد «حتى النقاد يتمايزون، فهناك ناقد يستبطن تاريخية الصحابة وناقد يأخذ نقده اللغة الميتاتاريخية». إذاً قراء أحوال وأحداث وصراع الصحابة يصدرون عن مدارس وخلفيات عدة، أنا مع أهمية إجلال جناب عموم الصحابة من ناحية الأدب مع شخصياتهم وحفظ قدرهم ومآثرهم مهما صدر منهم، ذلك أنني أنطلق من حيثية منطقية بحسبي، وهي أن حكاية الصحابة تندرج تحت قيمة قوله سبحانه: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). أعني من ذلك أن التورط في التعاطف أو التحيز لفئة على أخرى من الصحابة استعادة لأمر درس وعفت عليه الدهور، وليس من العقل العودة للاصطفاف والتحزب والكراهية لمرحلة بشرية تاريخية غير مقدسة حتى وإن رفعت لمرحلة المقدس. ربما أجد العذر لراسمي «ما شجر بين الصحابة» في خريطة العقائديات تحت تبرير رغبة ورغبوية إجلال مقام الصحابة عن المهاترات والإسقاطات التبخيسية والتدوينية، لكن ذلك لا يعني رفعهم فوق التاريخ. والاستعادة لما سبق كان مدخلي لموضوع استعادة صروف السجالات التي حدثت بين الصحابة بوصفها (لقد كان في قصصهم عبرة)، أحدد مرادي بسؤال «ماذا جنينا بصمتنا عن تنزيل ما شجر بين الصحابة تحت مشارط النقد؟ وما قيمة استلهام السجالات التي دارت رحاها بينهم وما المعرة في ذلك؟». برأيي أننا أسرفنا في تحاشي تناول تاريخ الصحابة خلف دعوى التورع والطهرانية حتى أمعنا وزايدنا في تبجيل الصحابة وتحميل مرحلتهم أكبر مما تحتمل من القداسة، وحولنا الصحابة وتاريخهم إلى امتداد للروحي النبوي المعصوم، ما نتج منه الاضطراب في تاريخ الصحابة وشخصياتهم وذلك ما أشرع هذا التاريخ أمام التأريخ المنحاز وغير العلمي الدقيق حتى وصلنا تاريخ هذا الجيل الفارد العظيم مفككاً مفسططاً اختلطت فيه الحقيقة مع الزيف أو التبجيل التبسيطي التأليهي. عقيدة المنع عن استعادة ما شجر بين الصحابة من سجالات وأحداث كانت خلفها إرادة ممانعة النيل من شخصيات الصحابة الكرام، لكن الذي تدشن خلاف ذلك، إذ المنع شكّل حجاباً عن الحقيقة وسبيلاً لخلافها، ذلك أن التبجيل الذي صنعته ذهنية منع استذكار ومراجعة صراعات الصحابة كان سداً منيعاً بيننا وبين الحقيقة، أضف إلى أن الآخر المختلف لم يكن ليلتزم بحكاية المنع، ومارس الحفر والتنقيب في حياة وتاريخ الصحابة من دون حجاب، ليكون رد فعلنا تجاهه الرد والسجال التبجيلي عن خطيئات وحقائق خلافات الصحابة التي لم يوارها التاريخ ويحجبها داخل طبقاته، ذلك أن التاريخ مشرع لطالبه ومريديه، والتاريخ حمّال أوجه ومتضادات وليس متمنعاً لأحد من دون أحد. ثقافتنا تتوارى وتوري بغير الحقيقة والمنطق العقلاني في تناول ملفات تاريخية فارقة من حكاية الصحابة، وأبقتها عالقة لقرون متطاولة إلا من محاولات قليلة وغير مكتملة، وحسبنا السؤال عن إشكال مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين والفتن التي تضج بها كتب التاريخ، ولعل أعظمها «فتنة الانقلاب على عثمان التي انتهت بمقتله يوم الدار»، والتي عدت فتنة الفتن في تاريخنا الإسلامي وحتى العربي، والتي استتبعتها السجالات التي امتدت لمرحلة الحرب بين الصحابة في معركتين عظيمتين ذهبتا بأرواح كبار الصحابة «الجمل» و«صفين»، كما ذهبتا بدولة الشورى ناحية درك الدولة السلالية. «الحصاد» أسدلت ستائر فصول الخلافات بين الصحابة بخاصة ما حدث بين الصحابيين الكريمين معاوية وعلي رضي الله عنهما، وظلت عالقة وعرّضت للعبث والتحريف والإضافات، كما جللت قبلها لحظات الفتنة العظمى «حصار وقتل عثمان رضي الله عنه»، مع أنهما اللحظات التي أسست الخلاف الديني والسياسي الذي ما زلنا نرزح تحت رياحه الساخنة إلى اليوم. أدعو إلى العودة إلى تلك اللحظات من تاريخنا لنستعيد تأسيس تاريخنا وفرزه عبر التشريح العلمي العقلاني المتزن بعيداً عن التحيز، بعيداً عن التبجيلي المحاكاتي، ذلك أن معارج تاريخنا هي ما خلقت وشكّلت حاضرنا، ولنا الحق في استقرائه واستلهامه بما يعيد التاريخ إلى حقيقته من دون غموض وقدسية. نمتلك نقد تاريخ الصحابة وتشريحه مع إمكان الاحتفاظ بحق الصحابة الكرام من الإجلال والمحبة والتوقير. الصحابة الكرام ومن بعدهم جيل التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم لا يجدون أية معرة في الحديث عما شجر بين الصحابة لاعتقادهم بزمنية وبشرية صراع الصحابة. * كاتب سعودي. abna88@hotmail.com abdlahneghemshy@
مشاركة :