استقبل العراق عام 2016 بانتصار حاسم على «داعش» في الرمادي (مركز محافظة الأنبار) بعد معركة شرسة لم تخل من أبعاد سياسية وتدخلات إقليمية ودولية، اذ حسم الجدل في عدم مشاركة فصائل «الحشد الشعبي» في المعركة مقابل دور أميركي لافت ساهم في انتصار الجيش، على رغم التكاليف الباهظة، إذ قدرت نسبة الدمار بنحو 75 في المئة. وشكّلت معركة الرمادي منعطفاً جديداً في تقويم المؤسسة العسكرية التي انهارت سمعتها مع انهيار وحدات الجيش صيف 2014 وفرارها من محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين ليتمكن «داعش» خلال أيام من السيطرة على معظم هذه المحافظات، يحصنها استعداد لمعارك طويلة كلفت العراق الكثير لاستعادتها. وحدات جهاز مكافحة الإرهاب المحترفة التي دربها الأميركيون أعطت دفعاً معنوياً للجيش ، وشجع الانتصار في الرمادي الحكومة على استعادة السيطرة على بقية المدن في الأنبار التي تمثل عمقاً بشرياً وجغرافياً للإرهابيين في سورية. وتمكن الجيش تباعاً من استعادة السيطرة على مدن هيت والرطبة وكبيسة وفك الحصار المفروض على بلدة حديثة الإستراتيجية، وأمن شمال صحراء المحافظة، وتوج هذه الانتصارات بتحرير الفلوجة، عاصمة «داعش» الأولى وخاصرة بغداد في حزيران (يونيو)، على رغم الأخطاء الفادحة التي رافقت المعركة، من عمليات قتل واعتقال. في موازاة ذلك، تمكنت قوات مشتركة من الجيش و «الحشد الشعبي» من استعادة السيطرة على مدن صلاح الدين، وخاضت معارك شرسة في بيجي والشرقاط لتفتح الباب أمام معركة الموصل، بما تحمله من رمزية للتنظيم، فمنها أعلن أبو بكر البغدادي «دولة الخلافة». وتنشغل قوات مشتركة قوامها 100 ألف عسكري من الجيش ومكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية و «الحشد الشعبي» منذ شهرين في المعركة الأصعب والأكثر تعقيداً، إذ اختار مسلحو «الخليفة» القتال لا الانسحاب، وتمترسوا وسط مئات الألوف من المدنيين، وبدأوا حرب استنزاف القوات المهاجمة، ما دحض توقعات الخبراء عن جدول زمني لإنهاء المعركة قبل نهاية العام. ولكن انتهاء التحدي العسكري في المدن المحررة منذ شهور، كشف عدم امتلاك الحكومة خطة حقيقية لإعادة النظام إليها، فالسلطة الأمنية مكونة من تشكيلات مسلحة غير متجانسة، بعيده من رقابة بغداد، أما السلطات المحلية ففقدت الكثير من شرعيتها، وبينما كانت عليها معالجة المشاكل ونيل دعم السكان، انخرط المسؤولون فيها في صراعات حزبية عميقة. وظهر أن تحرير المدن عسكرياً ليست المسألة الوحيدة، فمرحلة ما بعد التحرير لا تخلو مليئة بمشاكل اكثر تعقيداً، مثل إعادة بناء الشرطة، فالحكومة لم تعد تثق بالجهاز القديم، خوفاً من اختراقه، ولكنها في الوقت ذاته تواجه صعوبة في مسك الأرض، وإعادة الاستقرار والإيمان مجدداً بالنظام القضائي المرتبط بقوات الشرطة. ففي صلاح الدين التي تحررت مدنها منذ شهور، تتقاسم ملفها الأمني أربع تشكيلات غير متجانسة: الجيش وشرطة المحلية الضعيفة، والفصائل الشيعية، وقوات العشائر، وتُتخذ القرارات بعشوائية، بعيداً من رقابة الحكومة المنشغلة في معركة الموصل وإغاثة مئات آلاف النازحين. وفي الأنبار، أصبح الآلاف من عناصر الشرطة السابقين منبوذين، أما عناصر التشكيلات العشائرية المسلحة الجديدة فغير مؤهلين، لأن ولاءهم لزعماء عشائر متناحرين، كما انهم لا يخضعون للشروط القانونية التي تفرضها وزارة الداخلية. وتدير ثلاث تشكيلات مسلحة الشؤون الأمنية في الأنبار: قوات عسكرية برية من الجيش لا تمتلك خبرة في إدارة المدن، وقوات شرطة جديدة محدودة التأثير ولديها مهام قتالية برية أكثر من مهام الشرطة، وأخيراً مقاتلو العشائر، وهم القوة المسيطرة عملياً داخل المدن، وغالباً ما تكون عشيرة واحدة هي التي تسيطر على الأخرى في كل مدينة. في المحصلة، فإن الأمن في المدن المحررة ما زال هشاً لا يعتمد على هيبة الدولة وقواتها الرسمية، بل على نفوذ مقاتلي العشائر والفصائل الشيعية، وعلى السكان المحليين التعامل مع زعماء وقادة فصائل. ومن أهم المؤشرات إلى أن الأمن الذي تحقق هش ومعرض للانهيار، قدرة «داعش» على مهاجمة هذه المدن، مثل الشرقاط، شمال صلاح الدين، والرمادي والفلوجة والعامرية في الأنبار.
مشاركة :