ليس صعباً أن ندرك ما الذي حدا بالمفكر الإيطالي ومؤسس الحزب الشيوعي في بلده، أنطونيو غرامشي، الى الاهتمام بالرواية البوليسية فيما كان قابعاً بأمراضه وآلامه في غياهب السجون الفاشية أواسط ثلاثينات القرن العشرين. فالرجل، وكما يتبين من آلاف الصفحات التي كتبها خلال سنوات سجنه الطويلة لتشكل مؤلفه الرئيسي «دفاتر السجن»، كان مهتماً بكل أنواع الكتابة والأفكار. كان من أولئك الذين يشتغلون على كل ما أبدعه الفكر الإنساني، مضفين عليه تحليلاتهم التي تربطه بحركية المجتمع. وبالنسبة الى غرامشي، كان من الواضح أن الإقبال الشعبي الكبير على شتى أنواع الأدب البوليسي إنما يعكس دائماً أموراً تتعلق بحياة الشعب وكيفية التقاط الكتاّب لها. صحيح أن غرامشي لم يضع كتاباً حول أي موضوع بمفرده من هذا النوع، لكنه أفرد صفحات عديدة لكل واحد منها، كان يمكنها أن تشكل لاحقاً النواة لدراسة موسعة. لكن الموت لم يمهله لتحقيق ذلك هو الذي سرعان ما مات بعد فترة يسيرة من إطلاق سراحه. > بالنسبة الى غرامشي، ولدت الرواية البوليسية عند حدود ما يسمّى «القضايا الكبرى» مرتبطة بالتحديد مع ذلك النوع من روايات المغامرات التي تمثل «الكونت دي مونت كريستو» نموذجها الأمثل. فنحن هنا أمام واحدة من تلك القضايا وقد اتخذت سمة رواية تلونها كل تلك الأيديولوجيا الشعبية المتعلقة بغضب الشعب من الطريقة التي تدار العدالة بها في ارتباط مع الأهواء السياسية. ويرى غرامشي في السياق نفسه، في شخصية رودان في رواية «اليهودي التائه» ذلك النمط من المتآمرين الذين لا يردعهم اغتيال أو جريمة، بينما في المقابل يُقدّم الكونت رودولف بوصفه صديقاً للشعب يفسد على المتآمر مؤامراته وأحابيله. والحقيقة أن الانتقال من هذا النمط من روايات المغامرات الخالصة الى رواية المغامرات البوليسية، معناه إضفاء بعد خطّي على الرواية وتفريغها من كل مضمون ديموقراطي أو حتى بورجوازي صغير: فالمسألة هنا لم تعد مسألة الصراع بين الشعب الصغير الطيب والكريم، وقوى الطغيان الظلامية (كاليسوعيين والبوليس السري المرتبط بمنطق الدولة أو إرادات الحكام...) بل مجرد صراع بين المجرمين المحترفين من ناحية والقوى الشرعية، الخاصة أو العامة، من ناحية أخرى، انطلاقاً من القانون المدوّن. > من المعروف أن النشاط المتعلق بالقضاء دائماً ما أثار ويثير اهتماماً عاماً. علماً بأن مشاعر الناس تجاه الآلة القضائية، كما تجاه المجرمين أنفسهم تتبدل باستمرار. ويحدث أحياناً أن يقدَّم المجرم الكبير بوصفه أسمى من الجهاز القضائي، فيضحي هو، كما يستنتج غرامشي، الممثل الأكثر شرعية للقضاء الحقيقي (لصوص مسرحة شيللر، حكايات هوفمان، آن رادكليف، فوتران لدى بلزاك...). وفي هذا السياق، تبدو شخصية جافير لدى فيكتور هوغو («البؤساء») مهمة من وجهة نظر السيكولوجيا الشعبية، وربما تكون صورته التي حرص هوغو على إظهارها كشخصية رجل تهمه وظيفته، هي الرحم الذي ولدت منه فكرة أن رجل الشرطة يمكن أن يكون محترماً. > وهنا لا يفوت غرامشي أن يمرّ على شخصيات لها السياق نفسه، مثل روكامبول ومسيو ليكوك ليؤكد أنها هي التي فتحت الطريق أمام شخصية شرلوك هولمز، ما يعني خطأ الفكرة السائدة من أن الإنكليز هم الذين مهدوا الطريق للروايات المدافعة عن القانون فيما الفرنسيون دائماً ما مجدوا الخارجين عنه..... > والحقيقة أن هذا النمط من التفكير الحر والخلاق الذي اتسمت به كتابات أنطونيو غرامشي والمعبر عنه عامةً في «دفاتر السجن»، كان اكتشافه الحاسم يوم بدأت تنكشف أزمات الممارسة في النظرية الماركسية عند انهيار المنظومة الاشتراكية على صعد الحركة الفكرية العالمية، وتذكر كثر أن ثمة مفكرين كانوا قد نبهوا إليها باكراً، وأدركوا قبل عقود بأنه سوف يتنتهي بها الأمر إلى القضاء على السلطات التي تحكم باسم الماركسية. وفي كافة الأحوال كان الحزب الشيوعي الإيطالي، يعطى كنموذج لنوع من «التلاؤم الخلاق» بين الفكر الماركسي وتطبيقه، على الصعيد الحزبي على الأقل. والحال أن مواصلة الحزب الإيطالي مساره وتصدره الساحة السياسية في ايطاليا وإن بحدود، يعطي الحق لأولئك الذين كانوا يرونه متميزاً ومختلفاً، لكنه في الوقت نفسه يعيد إلى أذهاننا تلك الشخصية الاستثنائية من شخصيات الفكر الماركسي الأوروبي، شخصية أنطونيو غرامشي، الذي كان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي، ولكنه كان في الوقت نفسه أحد الذين نادوا مبكراً بنوع من الاستقلال عن موسكو وبالربط بين الماركسية كفكر اقتصادي واجتماعي ومحاولة لتفسير التاريخ، وبين خصوصيات كل بلد من البلدان. باختصار، كان غرامشي صاحب ثورة تحذيرية حقيقية في تاريخ الفكر الاشتراكي في القرن العشرين، ثورة ربما كانت هي في خلفية التيار المتمرد الذي ساد في السبعينات وحمل اسم «الشيوعية الأوروبية»، كما كانت بكل تأكيد في خلفية النجاح النسبي الذي حققه الشيوعيون الإيطاليون. > غير أن «ثورة» غرامشي تلك على النهج الستاليني وعلى الجمود الماركسي العقائدي، ربما كانت هي التي أودت به، فجعلته من ضحايا ستالين من دون أن يدري هو نفسه بذلك. وفي جميع الأحوال، لئن كان غرامشي قد رحل منهكاً ومريضاً في عيادة السجن في روما يوم 27 نيسان (ابريل) 1937، حيث كان معتقلاً، بالطبع، من جانب الفاشيين، فإن ثمة دلائل كثيرة راحت تبرز منذ أعوام لتشير إلى أن غرامشي ربما وقع ضحية تواطؤ (موضوعي) بين ستالينيي الحزب الشيوعي الإيطالي، وبين الفاشيين. كيف؟ الجواب جاء منذ العام 1968 في مقال نشره مؤرخ للحزب الشيوعي الإيطالي يدعى باولو سبريانو، ذكر فيه أنه حين اعتقل الفاشيون غرامشي رغم حصانته البرلمانية كنائب عن فينيسيا في العام 1926، إثر عودته من موسكو من طريق فيينا، رتب غرامشي دفاعه على أساس أنه نائب وكاتب وليس عضواً في أية هيئة إدارية للحزب الشيوعي (رغم أنه كان في الواقع الزعيم الفعلي للحزب)، ولكن في تلك الآونة بالذات وصلت إلى غرامشي رسالة من شيوعي إيطالي يعيش في موسكو، تخاطب الزعيم السجين بوصفه مسؤولاً عن الحزب. يومها استغرب غراتشي وصول تلك الرسالة، لأنها تكشف طواعية عن دوره القيادي وتسهل على المحكمة الحكم عليه. وبالفعل حكمت المحكمة على غرامشي بالسجن أكثر من عشرين عاماً. صحيح أن مؤرخاً آخر من مؤرخي الحزب حاول أن يثبت في العام 1989 أن تلك الرسالة كانت مزورة ومعدة من جانب الفاشيين أنفسهم لإدانة غرامشي، ولكن في الوقت نفسه جاء باحث إيطالي ماركسي آخر هو كلوديو ناتولي ليروي واقعة أخرى يمكن ربطها بالأولى. ففي العام 1933، يقول ناتولي - وفق ما تروي صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية في ملف كرسته لغرامشي قبل سنوات عديدة - أن غرامشي حصل في العام 1933 على إذن خاص باستقبال طبيبه بعد أن ساءت صحته جدياً وراح كبار البرلمانيين يتدخلون لمصلحته. وكتب الطبيب تقريراً يهيئ لحصول غرامشي على حريته المشروطة. ولكن في تلك اللحظة بالذات ظهر في صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي «لومانيتيه» مقال عن غرامشي كان من الوضوح والاستفزازية بحيث أثار السلطات الفاشية الإيطالية وجعلها تقرر إبقاء غرامشي في السجن، رغم التقرير الصحي. ويقول ناتولي إن تنقيبه في وثائق الحزب الشيوعي السوفياتي دله على أن كاتب ذلك المقال كان جيوزيبي برتي، أحد المقربين من تولياتي. شريك غرامشي في زعامة الحزب الشيوعي الإيطالي وفي تأسيسه والذي كان - على عكس غرامشي - مقرباً من السوفيات في ذلك الحين. > كل هذا قد لا يبدو اليوم سوى اجتهادات مؤرخين، ولكن أليس معناه أنه كان من المفروض أن يكون ثمة على الأقل فتح جديد لملف أنطونيو غرامشي، ذلك المفكر المتمرد والمستقل الذي كتب خلال سنوات سجنه «دفاتر السجن» في ألوف الصفحات، وفيها تأملات وملاحظات على التاريخ والسياسة والآداب والفنون والاقتصاد ومن بينها تلك الفقرات التي تحدث فيها عن الأدب البوليسي بقدر كبير من الوعي والربط مع المجتمع. وفيها كذلك تحذيرات جدية من انحرافات الممارسات الماركسية ومحاولة لإنقاذ ذلك الفكر من ورثته في ذلك الحين. وهي دفاتر تترجم الآن وتنشر على نطاق واسع وكان بعضها نشر في العربية قبل عقود.
مشاركة :