د. نورهان الشيخ رغم أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وضعت أوزارها، وحُسم السباق الرئاسي نهائياً لصالح المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، فإن قضية القرصنة الإلكترونية، والاتهامات الأمريكية لموسكو في هذا الخصوص، طفت على السطح مرة أخرى، لتعكس أجواء التوتر التي تسيطر على العلاقات الأمريكية الروسية على مدى الثلاث سنوات الماضية. من المعروف أن القضية تفجرت للمرة الأولى في يوليو/تموز الماضي في أعقاب نشر رسائل إلكترونية لعدد من قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي، والتي كشفت عن تورطهم في استبعاد المنافس الديمقراطي الثاني بيرني ساندرز من السباق الرئاسي، لصالح هيلاري كلينتون، ما أدى إلى استقالة رئيسة الحزب ديبي واسرمان شولتز. أعقب ذلك نشر موقع ويكيليكس، في أكتوبر/تشرين الأول، رسائل لمدير حملة كلينتون جون بوديستا، تضم معلومات عن حملات ترويج سرية لكلينتون من قِبل أكبر شركات الإنترنت، والأساليب التي لجأت إليها لمواجهة خصمها الجمهوري، ومقتطفات من كلمات لها في مناسبات خاصة، نالت في مجملها من صورة ومصداقية كلينتون. ومع أن الأمر يبدو شأناً أمريكياً خالصاً، فإن محاولة توريط موسكو واتهامها بالتأثير على الحملة الانتخابية الأمريكية لترجيح كفة دونالد ترامب، أدى إلى تدويل القضية، لتصبح أحد أبعاد التوتر بين البلدين، أو ربما مرآة تعكس عمق التناقضات بين البيت الأبيض والكرملين حول قضايا أكثر خطورة وإلحاحاً. فقد اتهم العديد من المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى الحكومة الروسية بمحاولة التأثير على نتائج انتخابات رئاسة البيت الأبيض، مدعين بأن موسكو هي من يقف وراء قرصنة هذه المعلومات، وتصاعدت حدة هذه الاتهامات منتصف الشهر الجاري، مع توعد أوباما لموسكو بالرد على القرصنة في الانتخابات الرئاسية، والتوجيه لوكالات الاستخبارات المركزية بإجراء مراجعة شاملة لعمليات القرصنة التي تتهم بها روسيا، مؤكداً أن الولايات المتحدة سترد على القرصنة الروسية، مشيراً إلى أن بعضاً من هذا الرد سيكون واضحاً وعلنياً، والبعض الآخر ليس كذلك. وحمل بن رودس المستشار المقرب من الرئيس أوباما، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المسؤولية المباشرة عن الهجوم الإلكتروني، الذي استهدف الحزب الديمقراطي، ورأى أن أموراً كهذه لا يمكن أن تحدث في الحكومة الروسية، من دون أن يكون فلاديمير بوتين على دراية بها. وقد نفت موسكو تورطها في الأمر، ووصفت الاتهامات الأمريكية بأنها سخيفة، واعتبرتها محض مزاعم من دون أي دليل، وهناك مجموعة من الحجج التي تدعم الموقف الروسي، أولاها، ما أشار إليه الرئيس بوتين خلال مؤتمره الصحفي السنوي الموسع، في 23 ديسمبر/كانون الأول، حول أن المهم هو مضمون الرسائل وليس مسربها، وأن الرسائل صحيحة وليست مفبركة، وأن القراصنة، الذين قد يكونون انطلقوا من دولة أخرى، ليست بالضرورة روسيا، قاموا فقط بنشر هذه المعلومات، وليس فبركتها. فلم يشكك أحد في الإدارة الأمريكية أو الحزب الديمقراطي في صحة الرسائل، وصدق ما حملته من معلومات، بل إن استقالة رئيسة الحزب الديمقراطي كانت أقوى دليل على صحتها. ثانيها، أنه رغم مرور ستة أشهر على الواقعة، فإن الاتهامات تظل سياسية أكثر منها جنائية، ومازال الجانب الأمريكي عاجزاً حتى الآن عن تقديم أدلة تثبت ادعاءه هذا، ولم تعلن الأجهزة الأمنية الأمريكية عن أسماء القراصنة الذين نفذوا الهجوم أو حتى المشتبه في قيامهم بذلك. وربما لهذا السبب بدأ الأمر يأخذ طابع السخرية في الولايات المتحدة نفسها، وانتشر على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي الأمريكية هاشتاج بعنوان الروس فعلوها، في تعليق ساخر على الواقعة. من المعروف أن الجرائم الإلكترونية تتسم بصعوبة إثباتها، حيث إن بعضها لا يترك أثراً لها بعد ارتكابها، ومن الصعوبة الاحتفاظ الفني بآثارها، إن وجدت، كما أنها تحتاج إلى خبرة فنية، ويصعب على المحقق التقليدي التعامل معها، حيث تعتمد على الخداع في ارتكابها والتضليل في التعرف إلى مرتكبيها. من ناحية أخرى، أكد كريج موراي، السفير البريطاني السابق لدى أوزبكستان، في حديث له لصحيفة ديلي ميل في 13 ديسمبر/كانون الأول، أن هذه الرسائل لم تقع في أيدي ويكيليكس نتيجة قرصنة بل تسريب، وأن أحد أعضاء الحزب الديمقراطي هو من سربها إلى ويكيليكس، بسبب معارضته للفساد الذي يسود أنشطة صندوق كلينتون، ولطريقة تعامل الحزب مع منافس كلينتون داخل الحزب الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية، بيرني ساندرز. ثالثتها، أن الاتهامات الأمريكية تأتي في سياق أوسع يحاول النيل من ترامب من خلال الربط بينه وبين روسيا وتصويره بأنه يهادن بوتين، وهو ما أشارت إليه كلينتون مراراً خلال حملتها، ولم يتوقف ذلك رغم انتهاء العملية الانتخابية. ففي 12 ديسمبر وجه البيت الأبيض، انتقادات لاذعة للرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، ومستشاريه، واتهمهم بعلاقات مالية تربطهم مع روسيا، وبالحصول على أموال من قناة آر تي الروسية. وقد نفى ترامب هذه المزاعم ووصف المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إرنست، بأنه رجل أحمق، ورفض نتائج تحقيق السي. آي. إيه، مؤكداً أن المحللين الذين توصلوا إلى ذلك هم أنفسهم الذين قالوا إن الرئيس العراقي صدام حسين يمتلك أسلحة تدمير شامل، في إشارة إلى عدم دقة المعلومات وزيف ما تحمله من ادعاءات. ولا يخفى ترامب إعجابه، بالرئيس بوتين، وتحدث عنه باعتباره القائد القوي الذي يجب التفاهم معه. وفي أول كلمة له عقب إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، أكد ترامب أننا نبحث عن الصداقة لا العداوة، في رسالة واضحة للخارج الأمريكي عامة وروسيا خاصة. ومن جانبه هنأ الرئيس بوتين ترامب على فوزه، وأعرب في برقيته عن ثقته بأن بناء حوار بين موسكو وواشنطن سيخدم مصالح البلدين والعالم. كما اختار ترامب ريكس تيلرسون لحقيبة الخارجية في الإدارة القادمة، وهو رئيس مجلس إدارة عملاق النفط إكسون موبيل، والمعروف بعلاقته الوثيقة مع روسيا، وقلده بوتين وسام الصداقة الروسي في عام 2013. واختار ترامب أيضاً الجنرال المتقاعد، مايكل فلين، للعمل مستشاراً للأمن القومي، الذي زار موسكو قبل فترة من الزمن، ليحضر حفلاً في ذكرى إنشاء قناة آر تي وجلس بالقرب من الرئيس بوتين. الأمر الذي يشير إلى إمكانية خروج العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا من حالة التأزم التي تمر بها منذ سنوات، وحدوث انفراجة وشيكة في العلاقة بين البلدين ستلقي بظلال واضحة على الملفات والقضايا الإقليمية التي تعقدت على خلفية التناقض وتراجع التفاهم بين واشنطن وموسكو، وتصبح معها قضية القرصنة الإلكترونية من مخلفات الماضي. من الواضح أن تهديدات البيت الأبيض لموسكو ما هي إلّا محاولة لحفظ ماء الوجه لإدارة أمريكية راحلة بهزيمة سياسية مفزعة، حيث خسر الحزب الديمقراطي البيت الأبيض والكونجرس معاً، ناهيك عن الفضائح التي منيت بها قيادات الحزب التي تآمرت حتى على أحد مرشحيها لصالح المرشحة الأخرى، ولن تستطيع مثل هذه الاتهامات والتهديدات النيل من فوز ترامب، أو تبرير خسارة كلينتون، كما أنها لن تعوق التطور الذي بدا وشيكاً في العلاقات الأمريكية - الروسية. أستاذ العلوم السياسية (جامعة القاهرة)
مشاركة :