الثقافة العربية بعد رحيل عام آخر: كسوف الأفكار أم كسوف الواقع ـ

  • 12/29/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحتاج التفكير في حال الثقافة العربية الى كتابات أكثر اجتهادا، شهادات أكثر صدقا، وتصورات أكثر جدلا. الثقافة العربية هي عينها في منجزها التخيلي والتعبيري والفكري في بعدهما الذهني والحسي. ثمة شكوى تلازمها بكون الرهان عليها ما زال مرجأ، ويذهب البعض الى أنها تعطلت بما يكفي، بل لم تعد مؤهلة كي تفترض لوجودها أهداف معرفية وتخيلية جديدة، كما ليس بمقدورها أن تعيد أنتاج نفسها على نحو متميز وخلاق وحيوي في مواجهة صراعات يشهدها العالم العربي وانتقالات شديدة التعقيد يشهدها العالم المعاصر. وثمة تطلبات أخرى من البعض الآخر تدعوها الى أن تكون فاعلة وحرة ومتدخلة في تصحيح الشأن العربي، الذي يستدعي النظر الى واقعه ومآله حزمة من مشاعر المرارة والإحباط والغضب. ما هو حال هذه الثقافة في غياب النموذج الفكري المهيمن وتراجعها أمام مسارات معولمة بتوتراتها الثقافية والتي أصبحت لها السلطة في التأثير وإنتاج واقعا افتراضيا. هذا الحال يحتمل دوافع اجتماعية وذهنية مغايرة خاصة به، وميزته تكريس ظاهرة المقبولية الجانحة نحو المهادنة. ينبأ رحيل المفكر السوري صادق جلال العظم عن رحيل مختلف، ليس لجهة غياب ناقد مؤثر في الثقافة العربية وعبر العديد من مؤلفاته ومواقفه وحضوره الفكري، ولكن لجهة رحيل تلك الأسئلة التأسيسية التي كان يثيرها العديد من المفكرين العرب، وهو أحدهم، في مواجهة الواقع محاولة منهم في اختزال تلك المسافة المقترحة بين تحولاته والقدرة على قراءته وتحليله، وفق حس نقدي يعتمد مبادئ للتفكير من داخله لرسم أفق تجتمع الأفكار فيه. بعد عام على هزيمة الخامس من حزيران، يصدر العظم كتابه " النقد الذاتي بعد الهزيمة". على الرغم من أنه أحد الكتب التي عززت لعلامات نقدية فارقة في الثقافة العربية، ولكنه في صورته الأخرى نتاج لثقافة السؤال في بنية تلك الثقافة وقتئذ التي شهدت أسئلة وانشغالات فكرية أخرى مغايرة ونقاشات مختلفة. إنه سؤال حاشد بانحيازات مجتمعية ونزعات منفتحة على الحداثة والمدينية، والداعية للانخراط والتدخل في الشأن العام ومن قبل مفكرين ومبدعين آخرين حتى لعقود قليلة. لقد كانت ثقافة واثقة وقادرة على طرح الأسئلة وإثارة قضايا إشكالية، والتوقف مليا في علاقتها مع واقع بات ألان يمضي نحو الانغلاق والتعلق بالبحث عن إجابات حاشدة بالجاهزية. رهانات الثقافة العربية تعيش حدها الأدنى في واقع عربي يعيش بدوره ما يقابل هذا الوصف. إنه واقع يحاصره الخوف والعنف والحرب وملاحق بانكفائه السياسي وفي بعده النظري، لم يتعد اختزالات من الاهتمام الفكري بجدلية الإسلام والحداثة. المجتمع بات يعايش نوعا مختلفا من التسلطية متمثلة بتغّول خطاب الإسلام السياسي وهيمنته على المقولة الاجتماعية والثقافية. يشهد عليه صدام الحريات الفردية بالمنزع الطائفي، كما في بغداد ودمشق وبيروت. تشهد عليه الحروب والتهجير والتغير الديموغرافي والخراب الذي طال أكثر من مكان ومدينة عربية، ومدينة حلب المثال الأخير، وربما ليس آخرا. ويتجلى الواقع كذلك بتحوله الى صورة مربكة ومشوهة لا تخلوا من الإحباط، والتي يوثق لها العديد من الإجابات من قبل مثقفين عرب اختصروا الأمر بعبارات مستفزة. يذكر الشاعر أدونيس في إحدى لقاءاته في أن "الوسط الثقافي العربي بائس ولا يعنيني بشيء على الإطلاق". أحد مشاهد هذا الواقع تشخص في تراجع تقبّل الأثر الثقافي ومنجزه المعرفي والتخيلي في ظل تردي فعل القراءة والاهتمام بالكتاب والنشاطات التعبيرية والجمالية، فيما يتصدر الولع بالعالم الافتراضي، بكونه مصدرا مؤثرا للمعلومة وللمعرفة. عديدة هي تلك المآخذ على الثقافة العربية في صورتها الحاضرة، لكن يبقى الأكثر تداولا في مدونة الخطاب النقدي، ذلك الذي يعيّن غياب أثر التراكم في ممارساتها. التراكم الذي يعني التداخل والتسلسل والتماسك وتتبع المسار، وبكونه شرطا لخلق التقليد الذي يعد ضرورة لإحداث منعطف جديد في المعرفة، عبر استئنافه للأسئلة المّلحة وتطوير الاتجاهات التأسيسية والبناء عليها وتعزيز التماسك الفكري والإبداعي المنتج للمعنى ولنبضه الخفي. تداعيات مثل هذا الغياب نجده حاضرا في الانقطاعات وتداخل الأزمان الثقافية وانفصالها، وهو إغفال اهتمام للبدء باهتمام آخر قد لا يدوم بدوره، بأثر سيادة التلقين الناتج عن رواسب عقدية ومجتمعية وثقافية تقليدية. تستدعي بعض هذه التساؤلات عن مصير تلك الحداثة والتفاؤل الذي واكب الثقافة العربية، مع بدايات النصف الثاني من القرن المنصرم، وكأنهما في لحظتنا الراهنة باتا يعملان ضد نفسيهما. الثقافة التي صارت تتأرجح، غالبا، بين التيه الذي يفصح عن شح الأفكار والممارسات الجادة المنتجة، والاقتباس عن الآخر الغربي الذي لم يزل يتبوأ المركز. الثقافة العربية في حاجة ماسة الى خطابات تحرّض كما تدعو فيه إنسانها للتفكير لإبداع وجوده وإعادة أنتاج واقعه، على نحو يتجاوز حالة الكسوف التي يحياهما معا، واللحاق كذلك بتلك التحولات والانجازات المتعددة التي يختبرها عالمنا المعاصر. سعد القصاب كاتب عراقي يقيم في تونس

مشاركة :