يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بالقدرة على تصور الأشياء غير الحاضرة أمامه، وبناء على المعلومات والوصف يستطيع أن يشكِّل في ذهنه قدراً معتبراً من موقف ما ويستخلص نتائج تساعده في رؤية هذا الموقف الذي لم يشهده. وفي القرآن الكريم تشبيهات يغلب عليها التصوير الحسي الذي يجعل المشهد المحسوس حياً متحركاً وبارزاً مشخصاً. هذا ما سنتحدث عنه في حلقات من خلال دراسات وتفاسير وآراء لعدد من علماء علوم القرآن. إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ.. (الزلزلة: 1-6). إذا كان الفناء والموت هما الحقيقة التي لابد أن يعايشها كل إنسان فلابد من الحساب والجنة والنار، فكم من مجرم يرتكب جناية ويفلت في الدنيا من الحساب متحصناً بجاه أو سلطان أو مستغلاً غفلة عين العدالة، ناسياً أن هناك يوماً سيرجع فيه الخلائق إلى الله ليوفى كل واحد حسابه.. قال المفسرون: إنه يوم حذرنا القرآن الكريم منه كثيراً ولما فيه من أهوال ومشاهد يراها الإنسان رؤى العين وهو في كامل يقظته ووعيه؛ ليعاين ما فعله في الدنيا من خير أو شر ويحاسب عليه، قال تعالى: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (البقرة 281). أسماء كثيرة تعددت أسماء يوم القيامة فهو اليوم الأخر، والساعة، ويوم البعث، ويوم الخروج، والقارعة، ويوم الفصل، ويوم الدين، والصاخة، والطامة الكبرى، ويوم الحسرة، والغاشية، ويوم الخلود، ويوم الحساب، ويوم الواقعة، ويوم الوعيد، ويوم الآزفة، ويوم الجمع، ويوم التلاق، ويوم التناد، ويوم التغابن، والحاقة.. وأخبرتنا آيات قرآنية ببعض أوصاف يوم القيامة وما فيه من مشاهد تنخلع لها القلوب، يقول علي بن نايف الشحود في كتابه (الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم): إن الزلزلة مشهد خفي غيبي، وقد جاءت في سياق بث الفزع والرجفة النفسية والتصدع القلبي، ولم يأت في هذه السورة الكريمة فعل مبني للمجهول إلا زلزلت - ليروا. هذا الانقلاب الكوني يمثل الوجه الآخر للمشهد، وهو مجسد في رؤية الأعمال التي من أجلها حدث انقلاب هذا الكون واختلال نظامه، وإذا كانت (إذا) للوقت، إلا أنه صدرت بها السورة، فهي بمثابة الإجابة عن سؤال: متي يوم الساعة؟ فقال: إذا زلزلت الأرض زلزالها، كأنه تعالى قال: لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته، لكن أعينه بحسب علاماته، وأراد الله تعالى أن يخبر المكلف بأن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة، مع أنها في تلك الساعة جماد، فكأنه قيل: متي يكون ذلك؟ فقال: إذا زلزلت الأرض، قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فُيَرى حسناته وسيئاته فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فتردُّ حسناته ويعذبه بسيئاته. كتاب الوجود لقد ثبت أخيراً ثبوتاً قاطعاً أنه ما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات، إلا وهي مسجلة في سجل الكون، ومدونة في كتاب الوجود، فليس شيء منها ضائعاً ولا يمكن لشيء منها أن يزول، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: إذا زلزلت الأرض زلزالها.. عن أبي هريرة رضي الله عنه: قرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يومئذ تحدث أخبارها، فقال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا، قال: فهذه أخبارها. وإذا كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود، فلماذا سجلت الأعمال إذن؟ لا تجد العقول جواباً إلا أن تقول: سجلت الأعمال لإعادة عرضها، لكن لا نرى الإعادة في الدنيا! إذن لابد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وأخبر المرسلون. مشهد يخلع القلوب إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة، هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي، وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار! وهذا هو طابع الجزء كله، يتمثل في هذه السورة تمثلاً قوياً.. وهو مشهد يهز تحت أقدام المستمعين لهذه السورة كل شيء ثابت؛ ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون، والأرض من تحتهم تهتز وتمور. مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض، وتحسبه ثابتاً باقياً؛ وهو الإيحاء الأول لمثل هذه المشاهد التي يصورها القرآن، ويودع فيها حركة تكاد تنتقل إلى أعصاب السامع بمجرد سماع العبارة القرآنية الفريدة! ويزيد هذا الأثر وضوحاً بتصوير (الإنسان) حيال المشهد المعروض، ورسم انفعالاته وهو يشهده: وقال الإنسان ما لها؟.. وهو سؤال المشدوه المبهوت المفاجَأ، الذي يرى ما لم يعهد، ويواجه ما لا يدرك، ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه والسكوت.. ما لها؟! ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجاً؟! ما لها؟! وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها؛ ويحاول أن يمسك بأي شيء يسنده ويثبته، وكل ما حوله يمور موراً شديداً. شهد الإنسان الزلازل والبراكين من قبل، وكان يصاب منها بالهلع والذعر، والهلاك والدمار، لكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبهاً بينه وبين ما كان يقع من الزلازل والبراكين في الحياة الدنيا، فهذا أمر جديد لا عهد للإنسان به، أمر لا يعرف له سراً، ولا يذكر له نظيراً، أمر هائل يقع للمرة الأولى! وفي مشهد من مشاهد القيامة أتى في سورة التكوير، قال رسول الله، صلي الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت.
مشاركة :