مكاريوس يشبه البابا الراحل شنودة في الكثير من الصفات، حيث يلجأ مثله إلى استخدام اللغة الأدبية كوسيلة لبث القيم والفضائل. العرب [نُشرفي2016/12/31، العدد: 10500، ص(12)] راعي أبرشية المنيا الذي يعبر رأس السنة غاضبا القاهرة - في السنوات الأخيرة، لمع في مصر، اسم الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، وخاصة في أوقات الأزمات والحوادث المرتبطة بالشأن القبطي، ولم تقع حادثة عنف طائفي أو هجوم على كنيسة، أو تعرض أحد الأقباط لحادثة، إلا وكان اسم مكاريوس يقفز إلى الأضواء. كلما لاحت في الأفق الكنسي محنة حاملة رياح الطائفية العاتية، سواء داخل أبرشيته بمحافظة المنيا أو خارجها، غالبا ما يؤخر مكاريوس بيانه الكنسي، اتساقًا مع هدوء يليق بثقافته، ثم يتحدث ليؤكد، في كل مرة، أن “الدولة لا بد أن تُحافظ على هيبتها ومؤسساتها، لأنه ليس من حق أحد أن يُقيم نفسه مُشرّعا وقاضيا وجلادا، فهذا هو دور الدولة، ولا يجوز لأحد أن يأخذ دورها، ويصلح الأمر بيده”. وفي حادث الكنيسة البطرسية، الذي شهدته العاصمة المصرية مؤخرًا، وراح ضحيته 26 قبطيا، اتكأ الأنبا مكاريوس على عصاه، وقال “التفجير لم يسبب ألما للأقباط وحدهم، ولكن مصر كلها أضيرت في هذا الحادث، من إرهابيين يستهدفون الوطن، ويحاولون الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين”. لكنه عندما أفاق من تأثير الصدمة، عاد ليذكّر الدولة بالقيام بمسؤوليتها، بتفعيل دولة القانون، وطالب أولي الأمر في مصر، بالبحث عن حلول جذرية لمشكلة الإرهاب، وبأن تكون هناك إجراءات صارمة لمنع تكرار ذلك، ملمّحا إلى أن “حادث كنيسة القديسين” (وقع في عام 2010)، وغيره من الاعتداءات، ما زال بلا تحقيقات ولا محاكمات حتى الآن، ما يعطى الضوء الأخضر للمزيد من الظلم والاضطهاد. فخ الصقور بعد أن توارى عن المشهد القبطي، الأنبا بيشوي، الذي عُرف بتعصّبه، وسطع نجمه في عهد البابا الراحل شنودة الثالث، كرمز لـ“تيار الصقور” بالكنيسة، جاء الأنبا مكاريوس ليثير الجدل حوله، ويلفت إليه الأنظار. الراهب “مكاريوس”، الذي رُسّم “قسًا” في 30 يونيو 1988، و”قمّصا” في 9 أبريل 2001، معروف ببراعته في الوعظ والخطابة وسِعة الاطلّاع، والتي تتجاوز حدود العلم الكنسي والديني، ما جعل الأقباط يلقبونه بـ“أديب الكنيسة”، وأهّله ليصبح سكرتيرًا خاصًا للبابا الراحل شنودة الثالث في عام 2003. يشبه مكاريوس، البابا الراحل شنودة في الكثير من الصفات، حيث يلجأ مثله إلى استخدام اللغة الأدبية كوسيلة لبث القيم والفضائل، وكانت كتاباته الأدبية المسيحية مذيّلة بتوقيعه “راهب بدير البراموس”، وبعد درجة الأسقفية، استبدل التوقيع بـ“الأسقف المثقف”، وصدرت له مؤلفات أبرزها “رحيق الاستشهاد”، لتأريخ الاعتداءات على الكنائس، وهناك مجموعات قصصية، منها “فقراء ولكن” و”حيثما تذهب” و”عند الغروب”. وبالرغم من أن رسامته أسقفا، في عام 2004، اعتبرها البعض تكريما لمجهوداته، لكن في الكواليس الخلفية، بدا أن تيار الصقور في الكنيسة وقتذاك، قرر محاربته بترسيمه أسقفا على أبرشية ولم يتركه راهبا. الرئيس السيسي يعد الرئيس المصري الأول الذي يحضر مراسم احتفالات الكنيسة القبطية بالأعياد خوف الصقور من تصاعد شعبيته بين الأقباط، ومنافسته لهم في المستقبل على كرسي البابوية، جعلهم يفكرون في كيفية حرمانه من حق الترشح لمنصب البطريرك بعد وفاة البابا شنودة، ويبدو أن ذهنهم تفتق عن إقناع البابا بترسيمه أسقفا لأبرشية المنيا (وحسب قوانين الكنيسة، فإن المرشح لمنصب البطريرك، لا بد أن يكون إما أسقفًا عامًّا أو راهبًا، وليس أسقفا على أبرشية). غير أن السحر انقلب على الساحر، ولم يحصل أيّ منهم على الكرسي، وأفل نجمهم، وفي المقابل سطع “أديب الكنيسة”، بشخصيته البسيطة والمتواضعة في التعامل مع العامة من المسيحيين، ومخاطبتهم بلغتهم، وتعاطفه معهم. نفوذ الأنبا مكاريوس تجاوز حدود محافظة المنيا، إلى التدخل في كل قضايا الأقباط في أنحاء القطر المصري، فقد كان قائدا روحيًا لشعبه وأبنائه، يبعث بالطمأنينة لرعايا الكنيسة، بإقامة الصلوات فوق أنقاض الحرائق والتدمير. وجده الأقباط يترأس الصلاة فوق حطام كنيسة العذراء بقرية الإسماعيلية بالمنيا، ويقيم الصلاة في منزل عجوز لا تقوى على الذهاب للكنيسة، ويمسك بيد معلمه المسن الأنبا أرسانيوس أسقف المنيا السابق، ويلتقط الصور “السيلفي” مع الأطفال، ويتابع أعمال البناء، ويغسل أرجل الشعب، مفضلاً الجلوس على الأرض. كانت أبرز مشاهده، التي زادت من تعلق الأقباط به، صلواته في كنيسة الأمير “تادرس الشطبي” بالمنيا، والتي دمرت بيد الإرهاب، وإقامة مراسم خطبة لعروسين فوق الأنقاض في “الطل”، وخلفه جمع من رعايا الأقباط. أشواك الطائفية يحظى الأنبا مكاريوس بحب المواطنين المسيحيين العاديين، الذين اعتبروه صوتهم في رفض الظلم، وإبداء الغضب تجاه ما يتعرضون له من اعتداءات، وانقلابا على الطرق التقليدية في معالجة قضاياهم، والتي لم تحسم شيئا، لكن في المقابل فإن مواقفه الجريئة في الدفاع عن الأقباط جعلته في حالة من الصدام والمواجهة مع رجال الأمن والبعض من رجال الإعلام، حيث أن علاقته مع رجال الأمن في محافظة المنيا ليست دائما في وئام وتوافق. وصرح أكثر من مرة بأن “الطريقة التي تنتهجها مؤسسات الدولة ستجبر المواطنين على اللجوء للكنيسة أو المسجد، وستدفع الكنيسة صاغرة إلى إقامة مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة”. في الوقت الذي يميل فيه رجال الأمن والسياسيون إلى التسوية العرفية لمشكلات العنف الطائفي، يقاوم الأنبا مكاريوس هذه الآلية، بل أحيانا ما يتهم المسؤولين السياسيين والأمنيين بالتخاذل عن معالجة تلك القضايا وعن حماية الأقباط، وهو ما يفاقمها ويجعلها متكررة، ودائما ما يؤكد أن “المسؤولين يهربون من المواجهة بـالملاطفة، ونحن في مصر لا نتعامل مع القانون، ولكن مع الجالس على الكرسي لتنفيذ القانون، وهناك فرق كبير بين المسلكين”. تلك التصريحات، أظهرت الجانب المتشدد من شخصية مكاريوس وتعصبه، لكنه نفى ذلك، مشيرا إلى أنه “يعبّر عن آلام الأقباط ومُعاناتهم، ولا يعني ذلك أنه مُتعصب، لكنه يحاول بلورة مشاعر الأقباط”. صلواته في كنيسة الأمير "تادرس الشطبي" بالمنيا، والتي دمرها الإرهاب، وإقامة مراسم خطبة لعروسين فوق الأنقاض في "الطل"، وخلفه جمع من رعايا الأقباط. تعد أبرز مشاهده، التي زادت من تعلق الأقباط به الأسقف المثقف على يقين تام بأن الجلسات العرفية تعالج البعد المجتمعي فقط، وليست بديلا لمؤسسات الدولة التي تهين نفسها حال قبولها الأعراف، ويؤكد أن التخويف من “فزاعات” الفتنة والاحتقان يهدف إلى تهدئة الأمور و”تنييم” الموضوعات بحلول سطحية، وأن عبارة “المسلمون والمسيحيون نسيج واحد”، أو المصريون لا يفرقهم أحد”، هما مجرد كلام حلو، وتطييب للخواطر”. الأنبا مكاريوس، الذي يحلو للبعض من الأقباط تسميته، بالسائر على شوك “الطائفية”، لم يتحمس لـ“بيت العائلة المصري”، الذي يضم شيوخًا وقساوسة من الأزهر والكنيسة، فهو يرفض مبدأ “اضحك علشان الصورة تطلع حلوة” وتبويس اللّحى بين الشيخ والقسيس، ورفض تدخل بيت العائلة في الكثير من الأزمات الطائفية، واعتبره مسكّنا وليس حلاّ جذريا. ظهر ذلك جليا في تعامله إبّان حادث طائفي بين قريتي “نزلة عبيد”، و“الحوارتة” بالمنيا، في ديسمبر 2013، وحذّر من جلسات الصلح العرفية، وتبرّأ من الكهنة المشاركين في سرادق المصالحة، باعتبارها تستند إلى “توازنات”، تستهدف تسيير الأوضاع فقط، دون مراعاة لوضع حلول جذرية تحول بين المنيا وتكرار العنف الطائفي داخل قراها، التي بحسب قوله “تتجدد طائفيتها على أرضية الإهمال الحكومي، وتغرق في ثلاثية الجهل والبطالة والأمية”. وقد أغلق أسقف المنيا، الذي احتلت مطرانيته المرتبة الأولى في اعتداءات الكنائس بنسبة 65 بالمئة في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، أبواب مطرانيته في وجوه الساعين إلى تمرير صلح عرفي، يضمّد جراح قرية “الكرم”-بالمنيا أيضًا- بعد تجريد سيدة مسيحية من ملابسها، إثر شائعة بوجود علاقة عاطفية بين سيدة مسلمة متزوجة وشاب مسيحي، دفعت البعض من المتشددين إلى مهاجمة منازل الأقباط وحرقها، والاعتداء على السيدة المسنة. كان هو الأعلى صوتًا والأكثر بروزًا في إدارة تلك الأزمة، وقام بزيارة السيدة الضحية في منزلها، وأعلن تضامنه معها، ورفضه كل أساليب العلاج النمطية؛ من جلسات عرفية، ودور لبيت العائلة، بل ورفض استقبال وفد برلماني مصري لإدارة الأزمة، وبعث برسالة إلى كهنة الأبرشية، يحظر عليهم فيها المشاركة في أيّ جلسة صلح عرفية، وقال إن أيّ كاهن يشارك في مثل هذه الجلسات “لا يمثل الكنيسة”. وجهان متناقضان أدار أديب الكنيسة أزمة سيدة الكرم بحنكته المعهودة، ضاربا على وتر طبيعة الشعب المصري المحافظة، فصعّد قضيتها، حتى وجدت صداها لدى الرئاسة المصرية، وتم تحويل الجناة إلى محكمة الجنايات، ما نزع فتيل الأزمة والغضب لدى الأقباط. مواقف مكاريوس كشفت عن طبيعة جبلية وعرة ومتناقضة، تعود لرهبنته بدير العذراء في البراموس، فبالرغم من أنه يطالب بالمواطنة وعدم التمييز بين المسلمين والمسيحيين، إلا أنه في كل بياناته يقول “تعرّض المسيحيون” ولا يقول “تعرّض المصريون”، وظهر ذلك جليا في الحادث الإرهابي الأخير، عندما صرح بـ“إن الذين قُتلوا في الكنيسة البطرسية هم شهداء، لأنهم ماتوا بسبب كونهم مسيحيين، أي أن جريمتهم الوحيدة أنهم مسيحيون”. وهو يبرر ذلك الموقف، بأنه ليس منوطاً بالدفاع عن المصريين، طالما أنه رجل دين، حيث أنه من الأفضل أن يكون هناك رمز ديني يبلور رأي الأقباط، لكي لا تترك الساحة لأفراد يسيئون التصرف نتيجة الانفعال، “وربما يكون موقفي هذا بديلاً عن صدامات مُحتملة واقتتال وتدمير”. وبالــرغم من أن الأنبا مكاريوس، كان على رأس قـائمة طـويلة من رجـــال الديــن الأقـباط والمسلمين، الرافضين خلط السلفيين والإخوان للسياسة بالدين، إلا أنه سقط في الفخ، في قضية مقتل المواطن القبطي مجدي مكين، بأحد أقسام الشرطة، في المطرية (وسط القاهرة) مؤخرًا. فقد تحرك في قضية مقتل مكين -المنظورة أمام المحاكم- وكأنه يزايد على الدولة، أو يخبر الرأي العام، بأن القضية معطلة لأنه مواطن مسيحي، وفي ذلك تغذية لروح الفتنة، وكان عليه أن يدرك أن تحميل القضية أيّ صبغة دينية يعني إيقاظًا للفتنة. الزيارة التي قام بها مكاريوس لأسرة الضحية، لا يمكن تسطيح تفسيرها بوصفها “عزاءً”، فمن حيث المبدأ الكنسي، لم يكن مكين من رعايا الكنيسة الأرثوذكسية أصلاً، ومن حيث العادة، فإن زيارات التعزية، يقوم بها كاهن الكنيسة التابع لها الفقيد، وإن قام بها مطران، فمن المنطقي أن يكون هو الذي وقعت الحادثة في زمام أبرشيته الجغرافي. رواد التواصل الاجتماعي ينشرون صوراً ورسومات ساخرة لبابا نويل في شوارع القاهرة وظهرت مواقف الأنبا مكاريوس المتناقضة والمربكة للرأي العام المصري جليا في مناسبات عديدة، فتارة يبدو بوجه وطني يحب الدولة ويكره من يعاديها، ومرات يظهر وجهًا مختلفًا، عندما يهدد الدولة المصرية بتصريحاته. على سبيل المثال، فحينما التقى منذ أسابيع بوفد الخارجية الأميركية أظهر نزعة وطنية، عكست العادات والتقاليد المعهودة والموروثة بهوية المصريين، عندما حاول أعضاء الوفد أن يأخذوا منه أيّ شكوى أو موقف كشهادة على ما يحدث في المنيا، إلا أن الأسقف الوطني رفض الحديث في الموضوع، لأنه “يميل إلى حل هذه المشكلات داخليًا”، وأكد لهم “أن مواقف الإدارة الأميركية في دعم الإخوان والإرهاب، تجعل هذا الوفد ليس جديرًا بأن يتحدث عن حقوق الإنسان”. لكن وجهًا آخر، لا يتسم بالوطنية، ظهر للأنبا مكاريوس، بسعيه للاستقواء بالأجنبي لحماية الأقباط، فقد قال في تصريحات لإحدى الفضائيات عن قضية قبطية “ما لم يحسم الأمر داخل مصر على وجه السرعة، فإننا سنترك الساحة مفتوحة، لكل شخص خارج مصر، يدلي بحديثه ورأيه في الموضوع، ويشجب ويدين، ولا يستطيع أحد لومهم، أو يسألهم لماذا يتدخلون في الشأن المصري والقبطي”. وازداد الهمس مؤخرًا، باستغلال الأسقف ورقة أقباط المهجر، للضغط على النظام المصري، لتصحيح سياساته تجاه الأقباط، واتخاذ مواقف حازمة من الاعتداءات التي يتعرضون لها. عندما سئل عن موقفه من تنظيم أقباط المهجر لمظاهرة أمام البيت الأبيض الأميركي، في 22 أغسطس الماضي، قال “هم مصريون، ومن حقهم التظاهر للتعبير عن رأيهم في إطار سلمي، ودون توجيه إهانات لأيّ شخص، حتى لا تحدث نتائج عكسية”. ويمكن قراءة سقطات وتناقضات الأنبا مكاريوس في إطار أن “الضد يُظهر حُسنَه الضدُ”، فهناك ضعف بادٍ وواضح في تصرف القيادات العليا بالدولة، ولأن الأسقف قد ضاق ذرعاً بالأمر، راح يغرّد خارج السرب. مراقبون يرون أن تشدد مكاريوس يأتي في إطار نظرية “تبادل الأدوار” داخل الكنيسة. فالبابا تواضروس -بحكم مسؤوليته كممثل للأقباط في مصر- تفرض عليه هذه المسؤولية توازنات سياسية خاصة مع الدولة ومؤسساتها، ومن ثم يتخذ مواقف هادئة، تميل إلى الاحتواء وعدم التصعيد، وعلى الجانب الآخر، ولتحقيق التوازن، يقوم الأنبا مكاريوس بدور المتشدد، للتعبير عن غضب الأقباط وما يتعرضون له من اعتداءات. ويبدو أن سياسة الأنبا مكاريوس الحازمة وتغريده خارج السرب، وحب الأقباط له، راقت للبابا تواضروس، وجعلته يعتمد عليه في إدارة الأزمات، التي تواجه الأقباط في مصر. :: اقرأ أيضاً يحيى الحوثي حاكم صنعاء المطلق الذي يحمد الله على وجود أميركا وإسرائيل زيغمونت بومان مفكر يرى العالم ليس كما نراه
مشاركة :