سلمان عز الدين في كتابه الستارة،يتحدث ميلان كونديرا عن الظروف التي أحاطت بولادة الأمة التشيكية ونهضتها بعد القرنين السابع عشر والثامن عشر اللذين كانت اللغة التشيكية خلالهما تتعايش إلى جانب الألمانية كلغة منزلية. ويتساءل عن الدافع الذي حدا بهذه الأمة الوليدة إلى استبعاد خيار البقاء ضمن ثقافة أمة عظيمة (الألمانية) موجودة على مستوى أرفع بكثير من مستوى الثقافة التشيكية: كان لدى التشيك آنذاك، وهم جميعاً ثنائيو اللغة، فرصة للاختيار: الولادة أو عدم الولادة، الوجود أو عدم الوجود... ومع ذلك، انتهوا إلى تفضيل ثقافة وليدة على الثقافة الناضجة للألمان. حاولت أن أفهمهم. إلام كان يستند سحر الإغواء الوطني؟، أهي روعة السفر في المجهول؟، أم الحنين إلى ماض غابر عظيم؟، أم سخاء نبيل يفضل الضعف على القوة؟. غير أنه لن يتسنى للكاتب ذي الأصل التشيكي أن يعرف الإجابة، كنت متأكداً من أنني لم أعرف كيف ولماذا أصبحنا ما نحن عليه.. لم تكن معرفة الأحداث التاريخية هي التي تنقصني. كنت أحتاج إلى معرفة أخرى، تلك التي بلغت، كما قال فلوبير،روح حالة تاريخية، والتي أدركت محتواها الإنساني. لعل رواية عظيمة كان بمقدورها أن تفهمني كيف عاش التشيك آنذاك قرارهم. والحال هذه، لم تكتب مثل هذه الرواية. وهذه واحدة من الحالات التي لا يمكن فيها استدراك غياب رواية عظيمة. روح حالة تاريخية ومحتواها الإنساني.. هذا من اختصاص الرواية، كما أن الوقائع والأحداث والأفكار والدروس المستخلصة وتشريح الحركات وتحديد الاتجاهات العامة.. من اختصاص كتب التاريخ وكتب الفكر. نستطيع معرفة الكثير عن ثورة ال 19 المصرية من خلال كتب التاريخ، ولكن إذا أردنا أن نعيش روح تلك الثورة والمحتوى الإنساني لزمنها فلا بد أن نقرأ رواية نجيب محفوظ (بين القصرين)، هنا نعرف أشياء لا تقولها إلا رواية: كيف عاش المصريون يوميات ثورتهم، أي مكبوت هو الذي تفجر في الشوارع، ما الذي كان يعتمل في نفوس الشباب المنطلقين في المظاهرات وتحت أزيز الرصاص، أي كبرياء انتزع الطلاب من مقاعد دراستهم إلى الساحات والحارات، أي آمال وأحلام وأوهام وهواجس كانت تنتاب الرجال والنساء، كيف تجاورت تقاليد سي السيد الحديدية مع أحلام ابنه فهمي بالتحرر والاستقلال، كيف صار رجل كهل اسمه سعد زغلول أيقونة في كل بيت.. ثمة الكثير من كتب التاريخ والدراسات السياسية والاجتماعية والفكرية التي تمكننا أن نكون محاضرين بارعين في الحرب الأهلية اللبنانية، أسبابها ودوافعها ونتائجها.. ولكن رواية فقط هي التي تستطيع إخبارنا عن أي روح ظللت لبنان واللبنانيين في تلك السنوات العصيبة، أي مزاج تفجر عن كل الذي حدث، أي هواجس، أي مخاوف، أي صدمة، أي خيبة.. رواية فقط هي التي تستطيع تصوير ذلك العالم القديم، الوادع والواهم والهش، وهو ينهار. رواية مثل التائهون لأمين معلوف، لا نشرات الأخبار ولا كتب السياسة، هي التي تجعلنا نعرف بالفعل المآل الإنساني الذي أفضت إليه هذه الحرب. كتب الأفكار توحي، عادة، بأن الحياة والتاريخ الإنسانيين هما تجسيد لمسيرة العقل المجرد، كل شيء يدور في حلقة السببية العاقلة: أسباب أكيدة تقود إلى نتائج حتمية. مصالح ملموسة ودوافع معقلنة.. ولكن ماذا عن الحماقة والحب واليأس والذعر والشجاعة والرجاء والإيمان والقنوط وجنون العظمة والضجر والحاجة إلى إثبات الذات؟.. هذه خيوط تنسج الرواية منها مادتها، ولا تستطيع إلا الرواية أن تفعل ذلك. ثلاثية المؤرخ الشهير إريك هوبزباوم (عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر الإمبراطورية) مرجع هائل عن القرن التاسع عشر الأوروبي (من أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين)، ثمة الكثير من المعلومات والتفاصيل عن مساحات الأراضي وأعداد الفلاحين وظروف المهنيين وأطوال خطوط السكك الحديدية وعدد أعمدة البرق والقطارات.. ومع ذلك فأمزجة الناس في ذلك العصر، طباعهم، رؤيتهم للعالم.. أشياء لا نجدها هنا، بل في روايات فيكتور هوغو وبلزاك وستاندال.. ما الذي نعرفه عن مشكلة البلقان الأزلية سوى أن ثمة صراعاً صفرياً بين هويات متناحرة على الدوام، وجماعات لم تعرف إلا الحرب؟ هل هذه الصورة دقيقة؟ هل هذا ما كان يحدث وحسب؟. تخبرنا رواية جسر على نهر درينا عن أشياء أخرى، وإيفوأندرتش، ولأنه روائي، استطاع تقديم صورة أكثر غنى وتعقيداً وأقل اختزالاً.. وبالتالي أكثر مشابهة لحقيقة الحياة البشرية. فوراء الصراعات الدموية كان ثمة بشر عاشوا وأحبوا وتاجروا وتزوجوا واختلطوا، ولأنهم بشر، وبغض النظر عن أي تعيين آخر، فقد مرت أزمنة سالت فيها الحدود والفواصل، وصارت مجرد مفاهيم ذهنية وحقائق مجردة، لا كما تصورها كتب التاريخ والسياسة عادة: أسوار حديدية راسخة وثابتة لا تعرف الاختراق.. هناك مهمة أخرى تستطيع الرواية القيام بها: مقاومة النسيان. في الجزء السابع من الستارة، وتحت عنوان الرواية والذاكرة والنسيان، يقول كونديرا إن الإنسان منفصل عن الماضي.. بقوتين تباشران العمل وتتعاضدان: قوة النسيان التي تمحو وقوة الذاكرة التي تحور. هذه بدهية ولكن قبولها صعب للغاية، إذ ماذا ستصبح كل الشهادات التي ينتسب إليها التاريخ، ماذا تصبح يقينياتنا عن الماضي، وماذا يصبح التاريخ نفسه الذي نرجع إليه يومياً بسذاجة وحسن نية وعفوية؟. ويؤكد كونديرا أن النشاط الدائم للنسيان يعطي لكل واحد من تصرفاتنا طابعاً شجياً وغير حقيقي وضبابي. ماذا تغدينا قبل البارحة؟ ماذا روى لي صديقي بالأمس؟ وحتى بماذا فكرت منذ ثلاث ثوان؟ كل هذا ينسى و(ما هو أسوأ بكثير) لا يستحق شيئاً آخر. ولكن وسط هذه المتاهة، وسط هذا التيار السائر أبداً نحو العدم، ثمة عزاء، ف مقابل عالمنا الواقعي الزائل والجدير بالنسيان في حد ذاته، تنتصب الأعمال الفنية كعالم آخر، عالم مثالي وراسخ، لكل تفصيل فيه أهميته ومعانيه، وكل ما يوجد فيه، كل كلمة، كل جملة، تستحق ألا تنسى وأن تفهم كما هي. معرفة من نوع آخر، ومقاومة النسيان.. أمران يجعلاننا نعول على الرواية في أن تجتاز بنا الحدود المكانية والزمانية، وتصلنا ببشر آخرين في أمكنة بعيدة وأزمنة مختلفة. واليوم، ونحن نعيش ظروفاً قاسية واستثنائية في هذه المنطقة المعذبة، فإن الروايات، من بين كل الكتب التي تكتب وستكتب، هي التي ستقوى على تخليد ألمنا وحيرتنا، يأسنا وأملنا، وأسئلتنا الوجودية الصعبة.
مشاركة :