• كثيرًا ما يذكرنا عزيزنا الأديب والكاتب محمد عمر العامودي، في خميسيَّته، بتلك المنزلة التي كان يتبوَّأها المدرِّس في قلوب طلابه ومريديه، وهي منزلة فرضتها شخصيَّات ذلك الجيل الشامخ، في كل شيء، والذي كان يضرب بسلوكيَّاته المثل الأعلى بين داخل المدرسة وخارجها. واليوم وبعد أكثر من ستين عامًا على دراستنا في مدرسة دار العلوم الشرعيَّة بالمدينة المنورة -وهي من أقدم المدارس النظاميَّة في بلادنا- أستعيد مع أبي علاء صورًا حيَّة عن المشايخ والمدرسين الذين تلقينا علومنا الأولى عنهم. * لقد كانت السنين الأولى تتشعَّب بين ما يعرف -آنذاك- إلى شعبتين، وكان من أبرز معلِّمي تلك الشعب أستاذنا المرحوم رجب أبو هلال -رحمه الله-، وأزعم أنَّ ما تلقيناه عنه من قواعد الإملاء، والكتابة، والخط لا يزال جزءًا ومكوِّنًا هامًّا ليس في حياتنا العلميَّة والتربويَّة فقط، بل يشمل كذلك اشتغالنا بالكتابة الصحافيَّة والأدبيَّة. وكان إلى جانب ترسّخ علوم الآلة عند ذلك النفر الذين تفتحت أبصارنا على شخصيَّاتهم في رحلة مبكرة من حياتنا، فلقد كانوا على درجة كبيرة من الرفق، وكثير من التودد لطلابهم ومريديهم، وإذا ما أخطأنا كانوا أبعد ما يكونون عن تعنيفنا أمام الآخر، فلقد قادتهم فطرتهم السليمة إلى أن أسلوب التأديب يُفترض أن ينأى عمَّا يدخل في باب الإساءة الى المشاعر والأحاسيس وخصوصًا في السنين الأولى من حياة الطالب. * وفي مرحلة لاحقة كان مدرسو اللغة العربيَّة من أمثال بكر آدم، وعبدالرحمن عثمان، أحرص ما يكونون على تدريسنا فنون الخطابة، وكان هذا الأخير، وهو والد المرحوم الدكتور أسامة عثمان، يقوم بتدريس المواد النظريَّة والتطبيقيَّة، قبل أن نرتكب خطأً جسيمًا بفعل بعض مَنازع الأدلجة، بالفصل بينهم حتَّى وصل الأمر ببعضهم إلى نصح الآخرين بالبعد عن قراءة الأدب العباسي، والتشكيك في عقائد بعض أدباء تلك الحقبة من أمثال: الجاحظ، وأبي العلاء المعري، وسواهما. * ويتذكَّر إخوة وزملاء من تلك الدار من أمثال الأساتذة علي حسون، ويوسف ميمني، وسواهما تلك القامة العلميَّة الشامخة -أعني عبدالرحمن عثمان- وهو يكتب على السبورة الأحرف الإنجليزيَّة، حتى إذا ما بلغنا المرحلة الإعداديَّة كنا على دراية ببعض أسس اللغة الإنجليزيَّة، وأضيف بأنَّ أستاذنا المرحوم عبدالرحمن كان يجيد إبداع الشعر، وهو ما ورَّثه أبناءه أنس، وزاهر، ومن قبلهم أسامة -رحمه الله-، كما كان محققًا لبعض كتب التراث. وكان شقيقه الأستاذ أحمد عثمان، أحد أبرز أساتذة تلك الفترة في علوم الحساب والهندسة، كما كان أستاذنا عمران الحسيني فقيهًا حنفيًّا متميِّزًا، بينما كان أستاذنا في تلك المدرسة حمزة حوحو أديبًا وقاصًّا. * تلك سطور أردتُ بها التأكيد على أهمية اختيار وإعداد المدرسين الذين يقومون بتأسيس الطالب معرفيًّا وعلميًّا وسلوكيًّا في مراحله الأولى.. ولعلَّنا نفعل.
مشاركة :