سلطان حميد الجسمي السعادة هي الجوهرة الكبرى في فَلك التطلعات الإنسانية، وهي نبض الحياة وشريانها المتدفق، والطاقة التي تدفع إلى بقائها واستمرارها، وهي مصدر الأمل والعمل، فمن دون السعادة تفقد الحياة رونقها، ويفقد الإنسان إحساسه بالحياة، وتتحول إلى ظلام دامس وجحيم من اليأس والإحباط. والأناس الذين يفقدون السعادة يصبحون نهبة لكل شر في الحياة، من الأمراض والجرائم والسلوكات المنحرفة، وصولاً إلى الانتحار والرغبة في التخلص من الحياة، لأنهم فشلوا في تحقيق السعادة. كانت السعادة منذ القدم، وعلى مدى الأزمان، محط اهتمام الفلاسفة والحكماء والأديان والحضارات، وكتب التراث الإنساني القديم ملأى بالمحاولات الإنسانية للوصول إلى كنوز السعادة، وتحديد مفاهيمها، ووسائل الوصول إليها، على اختلاف الحضارات والثقافات القديمة. ومع تطور العلم وتنوع المدارس المعرفية في العصر الحديث، واستمرار رحلة الإنسان في البحث عن السعادة، أخذ البحث يأخذ مجرى جديداً، وبدأ الكلام عن السعادة يأخذ طريقة علمية منهجية تلامس حياة الإنسان. ونُشرت العديد من الدراسات البحثية حول السعادة، ووصلت إلى درجات متقدمة، ودخلت في إطار القياس والملاحظة. فالسعادة بوصفها حالة شعورية يمكن أن يتم استنتاجها من الحالة المزاجية للفرد، ويمكن أن يقاس ذلك بتوجيه أسئلة معينة للأفراد، والتوصل إلى نتائج ثابتة وصادقة تكشف عن مدى شعور الإنسان بالسعادة، انطلاقاً من أن الشعور الإنساني مرآة تعكس صورة الخارج المعيش، وآثار نفسانية تنبثق من تفاعل الإنسان مع الحياة، ما ينعكس على الحالة المزاجية التي يمكن قياسها، وقد وضعت مقاييس عدة لقياس السعادة، ومن أشهرها قائمة أكسفورد للسعادة. وتتحدث جميع الدراسات والبحوث الحديثة التي تدرس السعادة ومرتكزاتها، عن أن العلاقات الإنسانية الجيدة هي من مصادر السعادة الأساسية، وهو ما يؤكد ارتباط السعادة الكلي بالمنظومة الأخلاقية والاجتماعية في التعامل بين البشر، التي يجب أن تقوم على التفاعل، والتسامح، والسلام، وعمل الخير، وهذا النوع من التفاعلات الإنسانية هو صمام أمان للسعادة البشرية. وعندما نتأمل في مبادرة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، في جعل عام 2017 عام الخير نجد استراتيجية وطنية متكاملة مثالية في بناء مجتمع السعادة، عبر استدعاء عناصر مركزية في منظومة السعادة تربطها علاقة التلازم والتكامل، وهي كلها لبنات في صرح السعادة، فتم في عام 2016 استحداث منصب وزير دولة للسعادة، لأن السعادة غاية الغايات، وتم استحداث منصب وزير دولة للتسامح، لأن التسامح منطلق أساسي للسعادة، لتتوج هذه الرحلة الوطنية في بناء مجتمع السعادة بمبادرة عام الخير، التي من شأنها رفع مستوى الإيجابية في العلاقات الإنسانية، وبالتالي رفع معدلات السعادة في المجتمع الإماراتي. والسعادة ترتبط بمختلف جوانب الحياة، فهناك علاقة وثيقة بين السعادة والتنمية، فالسعادة من أسباب زيادة الإنتاج وتنمية الاقتصاد، ولذلك تحرص المؤسسات والشركات على السعادة الوظيفية لموظفيها، لتحقيق أعلى معدلات إنتاجية في العمل، وهناك علاقة وثيقة بين السعادة والأمن، فالمجتمع السعيد محصن من الجرائم والسلوكات التي تهدد الأمن وتخل به، والسعادة مرتبطة تمام الارتباط بالترابط الأسري، فلكل إنسان أسرة يعيش في أكنافها، يخرج منها إلى أعماله ووظائفه، ويعود إليها، فلا بد أن تكون هذه الأسرة منبع للسعادة، والسعادة مرتبطة بالتكافل الاجتماعي، فالإنسان السعيد من يكون سبباً لسعادة الآخرين، خاصة الفقراء، والمحتاجين، فيكون بلسماً لجراحاتهم. هذه القيم والمفاهيم عن السعادة والتسامح والعطاء بمفرداتها ومرادفاتها، هي قيم أصيلة وعريقة في التراث العربي والإسلامي، والهوية الوطنية، وهي ثوابت لا تقبل التحول في جوهرها في عالم يموج بالتحولات والتغيرات، والعولمة الثقافية التي هي في بعض أجزائها أداة لهيمنة مراكز القوى في العالم، إضافة إلى منظمات الإرهاب والتطرف وأنماط العنف المختلفة التي تسرق السعادة من الناس، وفي القرآن الكريم قول الله سبحانه: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، والإحسان هو قمة العطاء في التعامل مع الخلق والخالق، وفي آية أخرى قول الله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، فأسعد البشر من ينتقل من قمة في العطاء إلى قمة أعلى، ليتجاوز حدود ما هو حسن إلى ما هو أحسن، وجاء في حديث نبوي قول النبي صلى الله عليه وسلم: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها، والحديث يتكلم عن طير صغير جاء يرفرف حزناً على صغيره، فكم هو شعور مرهف لدى من يتعامل مع المخلوقات مثل هذا التعامل الرائع، الذي يجعل الإنسان في قمة السعادة، ومن يتصور أن الإسلام الذي أشفق على هذا الطائر الصغير يبيح قطع رقاب بشر كما يفعل داعش؟ وبمثل هذا النهج العالمي للسعادة كانت الحضارة الإسلامية حضارة أخلاق، وتسامح، وسعادة. sultan.aljasmi@hotmail.com
مشاركة :