«اغسل العالم بقلبك» هي إحدى العبارات الموجودة على اللوحات التي قدمها الفنان السوري مجد كردية في معرضه الذي افتتح أخيراً في دبي، بعنوان «الأرض لازمها كوي» في غاليري «ذا ورك شوب». في هذا المعرض نتعرف إلى الكائنات المبتكرة، التي أتاحت للرسام إيجاد عالم خاص، على غرار عالم كليلة ودمنة، لكنه العالم الذي ينبثق عنه دمج حقيقي للحلم والواقع، والمرارة والسعادة. ينشد من خلاله الفنان الفرح، ويسرق الحزن الذي أفرزته كل الاضطرابات السياسية والحياتية، ليعيد ترميم الجمال الذي دمرته البشاعة. سيرة فنية نشأ مجد كردية في أسرة سورية مثقفة، وقد عانى منذ صغره الاعتقال السياسي لوالده، فقد عاش 10 سنوات من عمره ينتظر والده الذي كان سجيناً، الأمر الذي أثر به كثيراً، فيما كان جده المشجع الأول له على الرسم بطريقة حرة. عانى صعوبات في عرض أعماله الفنية في سورية، بسبب الظروف السياسية، ما جعله يترك سورية ويستقر في لبنان. أقام العام الماضي أول معارضه في بيروت، ويعد معرضه الحالي الأول له في دبي. كائنات تتألف الكائنات التي يصورها مجد كردية في لوحاته من مجموعة من الشخوص والحيوانات التي تجتمع إلى جانبه، إذ إنه كرسام يحاول التدخل أحياناً، لكن تدخله إلى الآن غير مرحب به من قبل العصابة. وتحمل الرسومات «فصعون وفصعونة»، وهما الشخصيتان الأساسيتان في الأعمال، إلى جانب البومة، والفيل، والضبع، والذئب الذي ذيله شجرة، وغيرها. لا شك في أن الرسم الطفولي الذي يعتمده الفنان في الكائنات التي ابتكرها، والتي يطلق عليها تسمية «الفصاعين»، يدخلك في بهجة أشبه بالفرار من الحزن المتكدس في العالم الخارجي. لا إرادياً تنتابك في المعرض، الذي يستمر حتى السابع من يناير، حالة من البهجة الاستثنائية مع فن من نوع مختلف، فن ينشد الفرح، ويتسلق جدران السعادة كي يسرق «أحزان بيت الجيران»، كما يكتب في أحد الأعمال، أو يفتح «شباك الأمل» ليستقبل «السمش» (كما يسميها) المبشرة بحياة أفضل، فاللغة الحوارية التي يضعها الفنان في المعرض مبتكرة وخارجة عن المألوف. وعلى الرغم من حالة الزهو التي تبدو للوهلة الأولى في الحوارات التي يستخدمها الفنان، إلا أن التعمق في كل ما يكتبه ويصوره يجعلك تدرك أنه يقوم بتعرية العالم الذي يحمل الكثير من القساوة. تجد في لوحات كردية خطاباً إنسانياً، يتخطى الحدود الزمنية أو حتى الجغرافية، فهو يستخدم لغة تتسم بكونها دمجاً من لهجات عدة، يكتب بعض الجمل في الرسومات، ليتحول كل منها إلى ما يشبه الموقف من قضية حياتية معينة، فالكلمة هنا هي البعد الثالث الذي يضاف إلى اللوحة. الكائنات التي يصورها، والتي تضم إلى جانب «الفصاعين»، «عصابة الفراشة المخيفة جدن»، هي كائنات خيرة، لا تحمل الشر. يعمل من خلالها كردية على عرض المشكلات الإنسانية والحياتية، على نطاق مساحة بسيطة من الورق الأبيض الذي يلونه بالألوان الزيتية، كاسراً العرف في استخدم هذه الألوان على الورق بدلاً من القماش أو الخشب. أما الأسلوب الذي تتحدث فيه الكائنات فهو بعيد عن قواعد اللغة العربية، إذ تتحول الشمس إلى السمش، وكلمة «جداً» تكتب «جدن، حيث يلجأ الرسام الذي يحمل شغفاً كبيراً لكلاسيكيات اللغة والشعر والعربي إلى استخدام ما هو قريب من الناس. تبدو الشخصيات التي صورها في هذا المشروع الذي وصل عدد لوحاته إلى ما يقارب 700 لوحة، كما لو أنها هربت من قصص مصورة أو من مسرحية ما، واستقرت على المساحة البيضاء لتقدم تجربتها المختصرة سريعاً، فتعيد قولبة الأسئلة الوجودية، وتقدمها بالشكل الصحيح والبسيط. وقال كردية عن معرضه لـ«الإمارات اليوم»: «الفن دائماً منهك، لأنه خلق وصراع مع العدم، وعندما لا يكون منهكاً يتحول إلى مجرد زخرفة، إنني أحاول تحطيم الأشياء القبيحة أكثر من محاولتي صنع شيء جميل، فقبل أن نزرع الأرض علينا أن نزيل الشوك والحجر». وأضاف أن «تاريخ الفن العربي بغالبيته، إن لم يكن كله، هو شعري، فكنا نرسم بالشعر، جداريات عملاقة لمعارك بريشة المتنبي، ورسوم كاريكاتورية لاذعة بريشة الحطيئة والفرزدق، لذا حاولت أن أدخل الكلمة على اللوحة كمعنى ضروري وليس كحالة زخرفية تجريدية، ومن أجل مصالحة الرسام الذي بداخلي مع الكاتب». وشدد كردية على أنه وصل إلى خط الأفق مع هذه التجربة، بعد ما يقارب 700 عمل، مشيراً إلى أنه توقف اليوم عن رسمها، لأن الموضوع منهك بالنسبة إليه، ومنوهاً بأن التكرار ليس عيباً في الفن، فهناك رسامون عظماء أمضوا حياتهم في رسم موضوع واحد، حتى على مستوى الأغاني الطربية نحن نستمتع بتكرار كلمة واحدة بأكثر من نغمة. وفيما إذا كانت أي من الشخصيات تمثله، شدد على أن اللعبة أو الفخ في هذه الرسومات أن كل الشخصيات يمكن أن تمثل ذات الشخص، فأحياناً تكون الشخصية عبارة عن حوار داخلي لهواجس إنسان، لذا تم التركيز على القصص والابتعاد عن السرد، لأننا بحاجة للحوار أكثر من أي وقت مضى. وعن استقراره في لبنان وخروجه من سورية، لفت إلى أن استقراره في جبل لبنان منحه العزلة، والوقت الكافي للعمل بهدوء، فيما شدد على أن اللغة التي اختارها للفصاعين، كانت لغة قريبة من كل اللهجات المحكية في الوطن العربي، وهي بعيدة عن لغة نشرات الأخبار والخطابة، وموضحاً أن مشروعه توقف عند اللوحات، وسيستكمل بطرق أخرى، ومنها الكتاب الذي سيشمل 300 قصة.
مشاركة :