عن زمان فات أمير العمري لا شك أن تأثير الآباء على الأبناء تأثير خطير الشأن، فهو يبقى قائما في الذاكرة مهما أنكر الابن أو البنت أو حاولا التظاهر بالاستقلالية، فنحن جميعا لسنا سوى امتداد لآبائنا على نحو ما، ليس بمعنى التبعية أو الخضوع، بل بالتأثر والإعجاب والتقدير لما قدموه لنا في حياتهم. في عالم التمثيل هناك الكثير من الأبناء الذين ساروا على دروب آبائهم، وفي عالم الإخراج السينمائي كذلك، هناك مثلا المخرجة صوفيا كوبولا التي تعلمت المهنة عن أبيها المخرج العملاق فرنسيس فورد كوبولا صاحب ثلاثية “العراب”، وقد اعتزل كوبولا الإخراج موجها كل طاقته نحو دفع ابنته في طريق العمل السينمائي كما أنتج لها أيضا بعض أفلامها. صوفيا امرأة سعيدة الحظ بالطبع، لأن اسم كوبولا الكبير ووجوده على قيد الحياة بينما تخرج هي الأفلام، لا شك أنه فتح لها الطريق وساعد في اقتناع شركات هوليوود بتمويل أفلامها، فهي قادمة من “مدرسة” سينمائية مشهود لها، والضامن موجود! في مصر هناك نادين خان ابنة المخرج الكبير الراحل محمد خان، التي درست السينما، لكنها تعلمت على يدي والدها الذي عملت مساعدة في عدد من أفلامه، وهي تسعى لإخراج فيلم ثان بعد فيلمها الأول “هرج ومرج” في مناخ شديد الصعوبة، لكنها لم تعتمد قط على اسم والدها. دينا محمد حمزة، لم تتعلم السينما على يدي والدها الشاعر الغنائي الكبير الراحل محمد حمزة، لكن تأثيره عليها ربما يتجاوز كثيرا موضوع الإخراج. محمد حمزة الذي كتب أكثر من 1200 أغنية، ارتبط لفترة طويلة من حياته بالمطرب عبدالحليم حافظ، الذي غنى له عددا من أشهر أغانيه. توفي حمزة الذي عمل أيضا كاتبا صحافيا، عام 2010 عن 70 عاما، وترك ثلاثة أبناء: دينا وشقيقتها التوأم دعاء وشقيقهما أحمد. أخرجت دينا فيلما تسجيليا هو “داخل خارج الغرفة” (2010) عن الجلاد المصري الذي شنق نحو ألف شخص ممن حكم عليهم بالإعدام شنقا، لكن الفيلم ليس عن الشنق، بل عن الإنسان القائم وراء ذلك الجلاد (أو عشماوي)، كما يطلقون عليه: كيف يعيش ويتحرك ويتعامل مع أبنائه وأسرته وأصدقائه؟ وكيف يرى العمل الذي يمارسه ويقتات منه؟ كان فيلما فلسفيا يطرح تساؤلات عن الموت والحياة أو “القتل” كوسيلة للعيش. ومع ذلك، كانت دينا منذ رحيل والدها في 2010، مهمومة بفكرة الفراق والفقدان، فقد كانت وفاة والدها المفاجئة لحظة فارقة في حياتها، فإذا تصورت أنها لحظة يمكن تجاوزها، لقالت لك دينا إنها لا تريدها أن تذهب، بل أن تبقى في داخلها، إنه ذلك الرحيل الذي يصعب أن تتعايش معه، لذلك فقد جاء فيلمها “جاي الزمان” الذي يحمل اسم أغنية شهيرة كتبها والدها وغناها عبدالحليم، مرثية طويلة لمحمد حمزة، لكن ذكاء دينا جعلها لا تتوقف فقط أمام علاقتها الخاصة بوالدها، بل جعلت من فيلمها التسجيلي الطويل، فيلما عن “عصر محمد حمزة”، مزيجا من الذكريات والوثائق والصور والأغاني والمقابلات التي شملت الكثيرين من أبناء ذلك العصر الرومانسي الذي لا يزال محفورا في ذاكرة دينا منذ طفولتها. وقد بدا الفيلم كما لو كان محاولة لشق الطريق نفسه الذي شقه محمد حمزة نفسه، وفهم كيف كان يشعر ويتذوق ويتفاعل مع من حوله ومع العالم. هذا الاختيار جعل من الفيلم فيلما عن دينا نفسها قبل أن يكون عن والدها، عما تحبه وعما ترفضه، عن علاقتها بأبيها وبالعالم، عن اختلافها عن شقيقتها التي أرادت أن تتجاوز الفقد وتسير في الحياة، بينما تريد دينا أن “يعود الزمان”، تعبيرا عن ذلك الحنين الرومانسي المضني والمستحيل. الفيلم رحلة “اكتشاف” للذات ولمعنى عذاب الفقدان، وهو من أجمل المرثيات السينمائية التي شاهدتها بسبب صدقه الشديد، وقد كان شعوري بعد أن أكملت مشاهدته “ليت ابنتي تتذكرني ولو بمقدار ضئيل مما تتذكر دينا والدها”. سراب/12 شارك هذا الموضوع: Tweet RSSطباعةالبريد الإلكتروني معجب بهذه: إعجاب تحميل...
مشاركة :