«وزارة الخوف» لفريتز لانغ: رواية غرين من أسئلة الخطيئة الى حكايات التجسّس

  • 1/4/2017
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

عندما باع غراهام غرين روايته «وزارة الخوف» التي صدرت عام 1943، أي في عز اندلاع الحرب العالمية الثانية، كي يحوّلها فريتز لانغ الى فيلم سينمائي من النوع الذي كان بدأ يحمل اسم «فيلم أسود»، لم يكن واثقاً منذ البداية من أن الناتج السينمائي لروايته سيكون، في نهاية الأمر، محملاً بالمدلولات الفكرية والأخلاقية وحتى الدينية التي كان حمّلها للنص. كان يعرف أن الضرورات السينمائية ستدفع الى إحداث تبدلات معينة، في الرواية، لكنه لم يكن ليتصوّر أن مخرجاً كبيراً من طينة لانغ سيغض النظر في السيناريو عما في الفيلم من عنصر أساسي يشكل، ليس فقط الثيمة الجوهرية في هذه الرواية، بل الموضوعة الجوهرية في أدبه ككل. ففي روايات غراهام غرين، سواء كانت الرواية من النوع الكبير الذي يشتغل عليه الكاتب بدأب وأناة كي يحمله مجموعة كبيرة من الأفكار (كما في «السلطة والمجد» أو «صخرة برايتون» أو «نهاية علاقة»...)، أو من النوع الصغير القائم على المغامرت وما شابهها (ونماذجه كثيرة على أي حال في أدب غرين)، في هذه الروايات لا بد أن يكون ثمة مكان أساسي لمفاهيم مثل الخطيئة والندم والتوبة والغفران. فغراهام غرين حين اعتنق الكاثوليكية بعدما كان وُلد بروتستانتياً، لم يعتنقها عن عبث أو كمجرد نزوة، بل تحديداً لأنه وجد في الكاثوليكية نوعاً من التناغم مع توجهاته الميتافيزيقية الروحية، حتى وإن كان إيمانه الديني يبتعد به كثيراً من ذلك كله. المهم أن فريتز لانغ، الآتي من التعبيرية الألمانية والراغب في ألا يتجاوز ما يحققه من خلال اقتباس رواية غرين، كونه فيلم تجسس أسود ينبه المتفرجين الى خطر التغلغل النازي في الحياة الشعبية الإنكليزية خلال تلك السنوات التي لم يتوقف فيها صوت القصف عن اللعلعة في سماء لندن. > ولعل هذه الرغبة لدى لانغ ومشروعيتها كانتا ما جعل غراهام غرين يسكت عن «التشويه» الفكري والمضموني الذي طاول روايته، على أن يعود الى الموضوع بعد ذلك... والأدهى من هذا، أنه إنما عاد إليه في وقت كان فيلم «وزارة الخوف» قد بات كلاسيكياً في مضماره وبات يصنف، ليس كفيلم من كتابة غراهام غرين، بل كفيلم عن الجاسوسية والنازية. صحيح، بعد كل شيء، أنه كان حقاً كذلك، لكن الرواية نفسها، والتي ستبقى لها شعبيتها في سياق عمل غرين، ستبقى شيئاً آخر. > مهما يكن، لا بد أن نبدأ هنا بما تحكيه الرواية، لكن من خلال الفيلم. فهي تحكي عن نيل، الرجل الذي أُطلق سراحه لتوّه من المصح العقلي بعدما بقي هناك عامين مسجوناً بتهمة مساعدة زوجته على وضع حدّ لحياتها إثر إصابتها بداء عضال رأى الأطباء أن لا أمل لديها بالشفاء. إذاً ما مارسه نيل في الفيلم كان موتاً رحيماً... يمكنه أن ينساه بعد أن يعاقب ردحاً بسببه. وهو يفعل ذلك في الفيلم نسبياً، لا سيما إذ ينشغل باله وتنشغل أيامه بسلسلة من أحداث تباغته، ولا علاقة له هو بها في البداية. إذ يحدث له أن يجد نفسه وسط عيد قروي على الطريقة الإنكليزية التقليدية يشارك خلاله في ربح قالب من الحلوى بعد مسابقة عليه أن يعرف خلالها وزن القالب. وهو أمر تخبره إياه عرافة غامضة في خيمة خلال الحفل. لكنه منذ اللحظة التي يحمل فيها القالب عائداً به الى لندن، تبدأ سلسلة الأحداث والجرائم التي تطارده في مواكبة مجموعات وأفراد يطلعون أمامه بين الحين والآخر من حيث لا يعلم أين. ويتساقط القتلى وتجري محاولات لقتله. أما الغاية الواضحة هنا، فهي انتزاع قالب الحلوى منه لكن من دون أن يعرف هو لماذا أو حتى أن للقالب مثل تلك الأهمية. وسيكون من بين الذين يلتقيهم رجل وامرأة هما الشقيقان ويل وكارلا اللذان يتسمان بقدر كبير من الغموض. والحال أنه سرعان ما يجد نفسه مولعاً بكارلا التي سيعرف أنها هي وأخاها لاجئان فرا من وطنهما النمسا إثر الاحتلال النازي... ويتوجه نيل مع الشقيق الى بيت العرافة ليسألاها بعض الأسئلة المتعلقة بما يحدث من حولهما. ولا ينبع هذا التوجه الى العرافة من كونها قادرة على معرفة أشياء قد تبدو غامضة في نظر الآخرين، بل كذلك انطلاقاً من كونها ساعدت نيل على الحصول على القالب من دون أن تكون على معرفة به. فإذا كانت للقالب هذه الأهمية كلها التي راحت تنكشف ساعة بعد ساعة ولقاء بعد لقاء، بل حتى وجريمة بعد جريمة، لا شك في أن للمرأة علاقة ما بالأمر. > بيد أن ما سيكتشفه نيل متأخراً بعض الشيء، سيكون أكثر خطورة بكثير: فمن ناحية سيكتشف أن شقيق كارلا على علاقة مباشرة بما يحدث. وأن لما يحدث علاقة مباشرة بالجمعية الخيرية التي كانت هي، أصلاً، من نظم العيد القروي، وأن الجمعية ليست في حقيقة الأمر سوى جزء من مخطط نازي هدفه نشر جمعيات يسيّرها عملاء نازيون في كل مكان يمكن الوصول إليه كي تكون تلك الجمعيات، في البداية أوكار تجسس تعمل لحساب السلطات الألمانية وتزودها بكل ما يتوافر من معلومات وأخبار وأسرار حربية، ومن ناحية ثانية، ضخّ الدعاية النازية، تحت غطاء إنساني في أوساط الرأي العام تمهيداً لترسيخ لوبيات تكون مستعدة للتنسيق مع قوات النازيين العسكرية حيت تتمكن من احتلال البلاد. > غير أن نيل لن يعرف هذا كله في الوقت الذي يقوم بمقابلة العرافة. بل على العكس، ستنتهي تلك المقابلة بكل لطف وسيُطلب من نيل الذي إذ يعود الى لندن حيث سيقابل كارلا في الفندق، سيُطلب منه على سبيل الخدمة أن ينقل معه صندوقاً فيه بعض الكتب. فيفعل من دون أن يدري أن ثمة قنبلة موقوته خُبّئت بين تلك الكتب. وهذه القنبلة ستنفجر بالفعل ما إن يلتقي كارلا في الفندق، لكنها لن تقتله بل ستغيبه عن الوعي ليفيق بعد قليل وقد أصيب بنوع من فقدان الذاكرة... لكن هذه الإصابة ستكون موقتة وستزوره كارلا التي بات واثقاً الآن أنه قد وقع في غرامها. > وبالتوازي مع هذا، تبدأ خيوط المؤامرة بالتكشف أمام ناظريه، لا سيما حين يضحي على يقين بأن المصح الذي كان فيه والحفل الذي حضره كلها أمور من تدبير النازيين، وأنه إنما قد استُخدم من قبلهم بخاصة في ما يتعلق بقالب الحلوى الذي سيكشف له شقيق كارلا الذي افتضح الآن بدوره كعميل نازي، أنه كان يحتوي في الأصل على ميكروفيلم عليه معلومات وصور خطيرة تتعلق بـ»الغزو» النازي المقبل لإنكلترا. وتكون المفاجأة - السعيدة بالنسبة الى كارل على أية حال - أن كارلا ليست ضالعة في المؤامرة لكنها عاجزة عن أن تبرهن لنيل عن ذلك، عجزه هو عن التأكيد لها أنه أصلاً لم يقتل زوجته... فالإثنان مذنبان احتمالياً، أما ما يجمعهما هنا فإنما هو هذا الوضع المشترك. غير أن كارلا ستقوم بالتضحية النهائية: ستقتل أخاها العميل النازي، إذ كان يتهيأ للإجهاز على نيل والفرار بالميكروفيلم المتنازع عليه باللجوء الى إيرلندا التي كانت على الحياد في تلك الحرب. وهكذا إذ تقدم كارلا على هذا في وقت يصل رجال الشرطة ويقضون بدورهم على العصابة النازية في مطاردة أخاذة فوق السطوح، سيتمكن نيل وكارلا من الذهاب معاً سعيدين وقد تخلص كل منهما من عقدة كانت تدمر حياته. > بقي أن نشير إلى أن الفيلم يختلف هنا كثيراً عن رواية غرين. ففي الرواية لن تكون كارلا - واسمها هناك آنا، بينما إسم نيل هو روي - من يقتل الأخ بل إن هذا سينتحر حين ينكشف أمره ويجد نفسه محاصَراً لا مهرب أمامه. وفي الرواية، لن يعرف روي أبداً ما إذا كان هو من قتل زوجته أو لا، طالما أنه يطرح على نفسه سؤالاً حاسماً: إن لم يكن هو قاتلها، ولم يكن ينوي ذلك... لماذا أتى الى البيت أصلاً بالسم الذي إذ حاول منعه عنها غافلته ودسّت قدراً منه في شرابها؟

مشاركة :