دعاني الشيخ عبدالمقصود محمد سعيد خوجة لحفل تكريم الكاتبة انتصار العقيل، والشيخ عبدالمقصود خوجة عرفته منذ زمن.. ومن ﻻ يعرفه!! فهو قيثارة بحرية مملوءة بنبل الحياة، نجح في نقل الجميل من الأدب والفن والتراث للمجتمع بدفء ورقة وإحساس راقٍ وجعله بين الناس كالماء والهواء، رجل يتطور في الاتجاهات كلها في وقت واحد، رجل يتطور ويطور، حياته بحد ذاتها تبدو أشبه بكتاب نفيس، فهو رجل عاش حياة شامخة الأبعاد، وظل رغم ذلك دودة كتب ومعرفة واطلاع، رجل اجتماعي بامتياز، صاحب حدس عميق ومنطق ﻻ يغلب، منطق الحياة. الحياة أوﻻ وقبل كل شيء. الحياة دائما وبفخامة. إن تتبع مسيرته المهنية من منزل والديه في مكة البهية لهو شيء جدير بأن يسجل، رغم أن خط رحلاته أصعب من التتبع، فهو مسار صعب لكنه فاتن، لقد سخر نفسه هذا النبيل للكشف عن المصادر المصهورة من التجارب الإبداعية الغنية الخام والمهذبة في مختلف المجاﻻت وتسليط الأضواء عليها لتكون جزءا من الحياة، إنه يعيد إلى الحياة المعاصرة العنصر البهي والرائع، نعم إنه مكتشف وباحث عن أساليب البشر وأفعالهم في التفوق في صنع وإخراج الجميل وتكريمهم، فعل ذلك من خلال الإقامة في وسط الحياة وفي تقبل قدره مع إخوته البشر، يا لها من محفز ممتاز للحياة أن تكون محفزا للآخرين للعطاء والتطور والابتكار، ورغم ذلك ظل تلميذ الحياة يتعلم ويقرأ ويتابع البليغ والأمتع، رجل امتهن «فن التقطير والري» ليواصل البشر نموهم، لديه قدرة هائلة على كشف الناس أمام أنفسهم وأمام العالم، يمجد فضائلهم ويزيد من معرفتنا واحترامنا لما هو في الأصل إنساني، إنه فنان بامتياز؛ لأنه يجمع بين مزايا المكتشف والمبادر، دائما يسعى للرواد الحقيقيين بين المعاصرين، وﻻ ينسى روعة الماضي، ويهلل للمستقبل بحماسة، ويمجد الحاضر، الحاضر الأبدي ويتحالف معه، لقد رفع هذا الرجل بما يفعل وعلى مدار سنوات من مستوى وعينا وعمق حبنا للفن والأدب والعلم والكتب وألف شيء وشيء في الحياة، يذكرني بالطبيب الخبير فهو يعرف كيف يقيس النبض، في الحقيقة هو يعلم النبض كله، كأطباء الزمن الغابر في الصين، شبكة ﻻ يتوقف العنكبوت داخلها في الغزل تمتد في الآخرين لتكتشف الجانب العظيم فيهم، أعود للاحتفالية فأبو محمد سعيد ليس في حاجة إلي مديح مني وإلى مديح أحد، فقط وجدتها مناسبة أن أتكلم هنا بدفء مبرر عن إنسان ترك انطباعا راقيا في الوسط الثقافي، حيث منح هذا الوسط كل ما يمكن منحه، ظهرت انتصار كيوم رائق شفيف متألقة بشعر ﻻمع ونفس أكثر لمعانا، صافية كدمعة وخفيفة كريشة. كانت جميلة وفارعة رغم الزمان كنهاية الموج في تحليقه، أمسكت الميكرفون بأصابعها الطويلة كشهقة الكمان، كان هناك من ينتظر حديثها كالأرض التي تشقق شوقها للمطر، آخرون كانوا ينظرون إليها نظرة الراعي إلى جواد بريء يعلم أن حوله سياج، لكنه ظل يتأمله متسائلا من أين لهذا الجواد كل هذه القدرة الفائقة على التمرد، وتحدثت انتصار عن مشوارها الصحفي والأدبي، كانت تتحدث كالحياة، كان الحديث يجري على لسانها ببلاغة من يلقي درسا، ثم عرجت علي معاركها الأدبية كان يتكسر على وجهها شظايا ألم مكتوم وعينها تدمع، تلك العيون التي خبرت حزنا متعاقبا منذ نعومة دموعها، إنه حزن مجهول الهوية لم تستطع انتصار تفاديه والفرار منه حتى في هذه الليلة البهية! يبدو أن الحزن في حياتها مثل مياه جوفية في جسدها تتسلل بغفلة منها، واستمرت تستعرض بعضا من روايتها، والتي البعض منها يجعلك تبكي «كغزيل»، وبعضها الآخر يكاد يجعلك تهذي «كحب على الهواء»، تحدثت كيف أنها ﻻ تكتب لتستمتع قدر حرصها أن يستمتع الآخرون، ففي بعض روايتها ألم ﻻ متعة، كانت تسترسل عندما تحين اللحظة المناسبة للاسترسال، وعندما يكون من الملائم أن تقتضب تقتضب وتدخل في صلب الموضوع كخنجر، لم يستطع المشاغب «نجيب يماني» أن يتخلى عن ممارسة هوايته الغالية في الشغب، فسأل انتصار عن مدى سيطرة الجانب الشخصي في حياتها على روايتها؟ وتخلصت انتصار من جوابه بمهارة مضادة، فلا يوجد خروف غبي يذهب إلى الجزار حاملا السكين في يديه، وانتهت أمسية ساحرة، كانت هواء مضافا، هواء يجعلنا نشعر بعبق وجمال اللحظة ويعيد التوازن للحياة الثقافية، كانت حقا أمسية حميمة مثل طوابع البريد على «رسايل» الصبايا، مثل قوس قزح بكل أطيافه.. مرة أخرى أرفع قبعتي احتراما لك يا أبو محمد سعيد وأقبض على يدك اليمنى الدافئة والتي تقدم بها هديتك التقديرية للمحتفى بهم وأهزها بفرح وامتنان وعلى شفتي مباركة أبدية بما تفعل ودعاء بأن يمد الله في عمرك.
مشاركة :