على مدار 48 ساعة متواصلة، تنشغل إسرائيل، رسمياً وإعلامياً وشعبياً، بمحاكمة الجندي ليئور عزاريا الذي دانته محكمة عسكرية أول من أمس بالقتل غير العمد للشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل في آذار (مارس) الماضي. ولا مبالغة في القول إن متابعة الموضوع في وسائل الإعلام كلها تشابه إلى حد كبير تغطية حرب أو حدث كارثي أو تاريخي. وقد يكون الحدث «تاريخياً» فعلاً لمتابعٍ موضوعيّ للقضية، فهذه هي المرة الثالثة فقط في الأعوام الثلاثين الأخيرة التي يدان فيها جندي في جيش الاحتلال بالقتل غير العمد، علماً أن مئات الفلسطينيين الأبرياء، منهم العشرات خلال ما سمي «انتفاضة السكاكين» العام الماضي، قضوا على يد رصاص الاحتلال من دون تقديم غالبية القتلة إلى المحاكمة. وأظهر استعراض لصحيــــفة «هآرــتس» أنه خلال العقود الثلاثة الأخــــيرة دين الجندي تمير يعكوف (قبل 20 عاماً) بالقتل غير الــــعمد وحكـــم عليه بالسجن لأعوام لم يقـــــضِ سوى واحد منها وراء القضبان، وتم الإفراج عنه بداعي حالته النفسية. وعام 2004، وتحت ضغط دولي كبير، دين الجــــندي تيسير الهيب من «الكتـــيبة البدوية» بقـــــتل ناشط سلام بريطاني في معبر فــــيلادلفي في رفح وحكم عليه بالسجن ثمـــاني سنوات أفرج عنه مع نهاية السنة السادسة. وأشارت الصحيفة إلى أن غالبية محاكمات جنود قتلوا فلسطينيين انتهت إلى صفقة بين النيابة والدفاع قضت بتخفيف التهمة من القتل العمد إلى القتل غير العمد (فقط في 3 حالات) أو إلى التسبب في الموت عن طريق الإهمال، والحكم على المتهم بالسجن لأشهر، أو استخدام سلاح في شكل غير قانوني والحكم المخفف بالسجن مع وقف التنفيذ. وتابعت أن المحاكم العسكرية «لطالما تعاطت مع الجنود المتهمين بتسامح ووجدت لهم الأعذار لتبرير فعلتهم أو التخفيف من حدتها، في مقدمها الضغط الذي يعيشه الجندي إبان قيامه بعمليات عسكرية». والآن جاء دور اليئور عزاريا الذي، وفق اعترافات مسؤولين عسكريين، ما كان ليقدَّم للمحاكمة لولا توثيق جريمته بكاميرا فلسطيني وفضح الموضوع، محلياً وعالمياً، من جانب منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية التي ترصد تباعاً ممارسات الاحتلال. وعلى رغم الإدانة، فإن الأنظار ستتجه إلى المحكمة العسكرية مجدداً حين ستنطق بعد أسابيع بمدة السجن للجندي، وسط توقعات بأن تطلب النيابة العسكرية حكماً مخففاً في ظل دعوات من كبار سدنة الدولة بوجوب العفو عنه غداة النطق بالحكم. وتنافس السياسيون أمس في إظهار التعاطف مع الجندي القاتل «ابننا جميعاً»، وفي توجيه انتقادات لقيادة الجيش على التخلي عن الجندي، متماهين عملياً مع مطلب غالبية الإسرائيليين. وتماشى هؤلاء مع الجو العام المؤيد للقاتل، إذ أفاد استطلاع للرأي أمس بأن 70 في المئة من اليهود يؤيدون منح عفو لقاتل الشريف، في مقابل معارضة 19 في المئة فقط. وكان وزير التعليم زعيم المستوطنين نفتالي بينيت أول من دعا إلى العفو عن القاتل، تلاه عدد من وزراء «ليكود»، ولاحقاً رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو الذي أعرب في بيان عن دعمه منح عفو لأزاريا، معتبراً الحكم الصادر «يوماً صعباً وحزيناً للجميع، خصوصاً للجندي نفسه وعائلته وجنود الجيش الإسرائيلي والعديد من المواطنين وأولياء أمور الجنود وبينهم هو نفسه». وفاجأت زعيمة «العمل» سابقاً المحسوب على يسار الوسط شيلي يحيموفتش بموقف مماثل بوجوب العفو عن الجندي. ووحدها غردت زعيمة حركة «ميرتس» اليسارية زهافا غالئون كعادتها خارج السرب، واعتبرت تأييد رئيس الحكومة إصدار عفو «تشجيعاً لمظاهر العنف التي اندلعت قرب المحكمة مع النطق بقرار الحكم». ومن المفارقات أن وزير الدفاع زعيم «إسرائيل بيتنا» المتطرف أفيغدور ليبرمان أسمع صوتاً «عقلانياً» قياساً بزملائه، وطالب باحترام قرار المحكمة والكف عن مهاجمة القيادة العسكرية، علماً أنه كان أشد مقرّعيها عندما تقرر تقديم الجندي للمحاكمة حين كان في المعارضة. وأعلن محامو الدفاع عن أزاريا أنهم سيقدمون طلب استئناف ضد القرار، فيما أعلنت الشرطة تشديد الحراسة على القضاة الثلاثة في أعقاب التحريض ضدهم في مواقع التواصل الاجتماعي بلغت التهديد بقتلهم. واعتقلت الشرطة إسرائيلياً بهذه الشبهة. إلى ذلك، لفت مراقبون إلى أن محاكمة أزاريا ستحول دون محاكمته في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، إذ ينص القانون الدولي التكميلي على أن المحكمة الدولية تتدخل في حال لم تعالج محكمة محلية الشكوى ضد مرتكب الجريمة. وأشار هؤلاء إلى أن قيادة الجيش المدركة هذه الحقيقة، والتي تخشى ملاحقة ضباط الجيش او جنوده في المحكمة الجنائية الدولية، اختارت محاكمته عسكرياً لقطع الطريق على استدعاء الجندي للمحكمة الدولية. ورأى الكاتب اليساري في صحيفة «هآرتس» جدعون ليفي أن أساس كل قضية أزاريا هو «الكراهية للعرب. أزاريا هو بطل قومي تقريباً لسبب واحد: لأنه قتل عربياً... (التمييز بين عربي ومخرب مشوَّه في إسرائيل)... لقد قام أزاريا بما يريد كثيرون القيام به وأكثر منهم يعتقدون بأنه يجب عمله». وأضاف أن ما حصل خلال المحكمة وبعدها وردود فعل السياسيين ينبئ بأن «النظام السليم والمجتمع الصحي يعيشان الآن سكرات الموت». وأضاف: «في السنوات الـ 13 الأخيرة، لم يُدن أي جندي بالقتل غير المتعمد في نشاط عسكري... إعدام الفتيات مع المقصات مرّ من دون محاكمة القتلة... أزاريا لم يكن أول من نفذ إعداماً لكنه لن يكون الأخير. جيد أنه تمت إدانته. وإذا فرضت عليه عقوبة مناسبة، فإن الأمر قد يمــــــنع عمليات قتل إجرامية... الأدلة استوجــــبت من المحكمة إدانته. لكن لن تكون محاكمات أخرى كهذه المحاكمة... السياسيون والجمــهور لن يسمحوا بذلك». واختتم مقاله بالقول: «أزاريا ليس بطلاً ولا ضحية... فوقه المجرمون الأكبر».
مشاركة :