خيار تركيا الروسي يتسبب بتصدّع موازين القوى ويقلب قواعد معمول بها منذ الحرب العالمية الثانية. تشكو أنقرة من أخطار أمنية مباشرة ثلاث. الأول مصدره تنظيم داعش الذي تخوض تركيا ضده حرباً مباشرة. وعلى الرغم من أنها عضو داخل التحالف الدولي ضد "داعش"، إلا أن المدد الجوي الذي طالبت به تركيا في معركتها في مدينة الباب جاء روسيا من خلال قيام طائرات روسية، وليس أطلسية، بدك مواقع للتنظيم الإرهابي داخل المدينة. تستنج أنقرة الواقع الجديد مستغربة على لسان وزير دفاعها فكري إشيق امتناع الحلف الدولي عن تقديم الدعم اللازم لكسر الإرهاب في "الباب". الثاني مصدره حزب العمال الكردستاني الذي يعتبره العالم أجمع تنظيما أرهابيا، لكن ذلك لا يمنع روسيا والولايات المتحدة من الاعتراف بامتداداته داخل سوريا من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي و"قوات حماية الشعب" الكردية التي تحظى بدعم ورعاية أميركيين. وإذا ما كانت شروط مواجهة "داعش" في سوريا تستدعي قفز واشنطن على "إرهابية" امتدادات الـ "بي كا كا" في شمال سوريا، فإن تركيا تعتبر الأمر خطاً أحمراً تتحلق كافة المكونات السياسية التركية لرده عن الحدود الجنوبية للبلاد. الثالث مصدره تيار الداعية فتح الله غولن، والذي يتواجد في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، والذي لم تهتم واشنطن لطلبات تركيا المتكررة بتسليمه على الرغم من تقديم أنقرة ملفا دسماً تحمّله مسؤولية محاولة الانقلاب في يوليو الماضي. وعليه لا يمكن للعقل الحاكم التركي إلا أن يعتبر سلوك "الكيان الموازي" ضد أردوغان وصحبة إلا مزاجاً أميركيا معاديا أو سلوكاً يقوده غولن ولا يزعج واشنطن كثيراً. تدرك أنقرة أنها تعيش مخاضاً مضنياً هو الأكثر خطورة منذ تشكّل تركيا ما بعد العثمانية، وهو الأكثر تهديداً لنظام "العدالة والتنمية" منذ وصوله للسلطة عام 2002. ولأن رياح الغرب تحمل نذراً مقلقاً فإن التوجه للاستظلال بالسقوف الروسية بات حاجة للأمن الاستراتيجي وليس خيارا أو تكتيكاً. لكن تركيا تدرك أيضا أن السقوف الروسية نفسها تبحث عما يرممها ويقوي من ركائزها بما يدعم طموحات فلاديمير بوتين في الاعتراف ببلاده شريكا في إدارة شؤون العالم. وبسبب الطابع الارتجالي للاندفاعة الروسية وعدم الحكمة من نقل كل البيض التركي إلى السلة الروسية، فإن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم يلجأً إلى أوراق سلفه أحمد داوود أوغلو في تبشيره القديم بالـ "صفر مشاكل"، فيعيد ترميم العلاقة مع بغداد وتعبيد الطريق نحو دمشق حتى، ربما، برئاسة بشار الأسد. هذا زمن "الواقعية السياسية" المرادف المستتر للماكيافيلية الشهيرة. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :