وحدة متخصصة للشرطة الجنائية والتقنية قرب ليون وسط شرق فرنسا 9 ديسمبر في تجربة جديدة للتعرف على القتلى ضحايا هجمات باريس وهي سلسلة عمليات إرهابية منسقة شملت إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن حدثت في مساء يوم 13 نوفمبر 2015 (غيتي) عام جديد وخطر قديم مستقبل مواجهة أجهزة الأمن والأستخبارات للإرهاب المراوغ بين الافتراضي والواقعي •كيف يكون 2017 عامًا مفصليًا في مواجهة ثغرات منظومة مكافحة الإرهاب؟ •وسائل حديثة انضمت إلى القنبلة والحزام الناسف والرصاصة شملت حوادث الدهس والطعن بالسكين..والرغبة في العنف باتت مشكلة ثقافية سياسية قبل أن تكون أمنية •«تنظيم القاعدة» أول من تمكن في التواصل مع عناصره ونقل الأموال والمعلومات والتكليفات عبر شبكة من «الرجال الموثوقين» في دول عدة بعيدًا عن الرقابة أو الاختراق •تحت وطأة صدمة الغرب الناجمة عن انخراط عدد من مواطنيه في صفوف «داعش» طغى الاهتمام بالعالم الافتراضي بقوة على الاهتمام بالعالم الحقيقي الشارقة: ممدوح الشيخ كيف يكون 2017 عامًا مفصليًا في مواجهة ثغرات منظومة مكافحة الإرهاب؟ ربما كان هذا أحد أسئلة العام الجديد الملحة، وبخاصة شمال المتوسط وجنوبه؛ فقد كان 2016 أحد الأعوام الدموية وشهد عددًا كبيرًا من الهجمات الإرهابية المتنوعة، هجمات ربما تحمل جديدًا فيما يتصل بمفهوم الثغرات الأمنية. ومع استمرار الخطر الإرهابي ثمة حاجة إلى إعادة بناء – جزئي – للرؤية، وتاليًا الإجراءات التي يمكن أن تجعل العالم أكثر «مناعة» في مواجهة خطر ماثل تعكسه توقعات أمنية لا تخلو من تشاؤم، وتحذيرات متفاوتة الحدة لا تكاد تنقطع من تهديدات إرهابية، ومن خطورة السفر إلى هذا البلد أو ذاك. في عدد غير قليل من الهجمات التي شهدتها دول كثيرة في الشمال والجنوب والشرق والغرب، كانت الأصابع تشير إلى ثغرات، بل أحيانًا: «فشل استخباراتي». وتظل الهجمات التي شهدتها دول أوروبية تشير إلى نمط عام ينبغي إخضاعه للتحليل. فقد تكرر الكشف عن أن هجمات عدة وقعت رغم وجود تحذير من عمل متوقع، وفي بعضها تبين أن أحد الجناة أو المشتبه بهم كان موضوع تحذير من جهات أمنية داخل القارة أو خارجها. وقائع طرحت علامات استفهام بشأن الكفاءة، كما بشأن حدود فهم الظاهرة، وبخاصة لجهة تحولات الظاهرة الإرهابية ما بين الافتراضي والواقعي. أسلحة التبسيط والتعقيد العمليات الإرهابية التي شهدها العام الماضي جزء من مسار طويل من الرهان على الوصول إلى هدف غير متوقع، واستخدام وسيلة غير متوقعة. منطق اختيار الأهداف شمل، تقريبًا، كل مكان يمكن أن يتجمع فيه عدد كبير من الناس؛ ما يجعل مهمة رجال الأمن أقرب إلى المستحيل إذا أرادوا تأمين مواطنيهم، وهنا أصبح المستهدف «كسر إرادة» المجتمعات قبل صانع القرار. وبقدر ما يعد الإصرار على مواجهة الخطر الإرهابي ضرورة تبقى عمليات إعادة النظر وإعادة القيم جزءًا، لا غنى عنه، من أي تصور مستقبلي. وفيما يتصل باختيار الوسائل، فقد انضمت حزمة وسائل جديدة إلى: القنبلة والحزام الناسف والرصاصة، وسائل شملت استلهام حوادث الدهس ، وصولاً إلى العودة إلى ما هو بدائي كالسكين. وهنا، يصعب جدًا الحديث عن ثغرات أمنية؛ فالرغبة في العنف هنا تصبح مشكلة ثقافية سياسية قبل أن تكون أمنية. لكن استخدام السكين أو السيارة كان مؤشرًا على سمتين تبلغان الغاية في الأهمية في التحولات الطارئة على العمليات الإرهابية: أولاهما جعل العنف جزءًا «محتملاً» من نسيج الحياة اليومية، وهو ما لا حيلة لأي نظام أمني مهما بلغت كفاءته في مواجهتها إلا بالبحث عن الجناة المحتملين ضمن «فئات» بعينها، ما يهدد باللجوء إلى أحد بديلين: التقويض الجزئي لدولة القانون والتخلي عن ميراث من الحريات يمثل أحد أهم معالم الاجتماع الغربي الحديث، أو التخلص من جماعات بعينها بالطرد أو سحب الجنسية أو المراقبة الشاملة التي هي، فوق كلفتها الكبيرة، ستكون إعلانًا عن فشل كبير كلفته السياسية باهظة. السمة الأخرى: انتصار التبسيط على التعقيد التقني، وللأمر قصة ليست جديدة في مسار الصراع بين الدول والجماعات الإرهابية. فمن حقائق التاريخ المثيرة أن جماعة «فرسان الهيكل» الشهيرة التي كانت أحد أشهر الجماعات المسلحة في الحروب الصليبية، التقت للمرة الأولى في الشام بـ«حركة الحشاشين» الإسماعيلية المتطرفة. ويذهب باحثون إلى أن فرسان الهيكل أصبحوا، فعليًا، الناقل الوحيد لتقاليد حركة الحشاشين التي كانت، على الأرجح، ستختفي مع القضاء عليها. وقد كان من أكثر ما ورثه الفرسان عن الحشاشين، فاعلية وتأثيرًا، السرية الشديدة والاعتماد على شبكة من الرجال الموثوقين في نطاق جغرافي واسع يتعدى حدود الدول القائمة آنذاك، ما جعل الحشاشين، مبكرًا، يتحولون إلى ظاهرة دولية، أو تكاد. وقد كان من تقاليد هذه الشبكة أن يذهب أي عضو في الحركة إلى أي مكان فيقدم نفسه للرجل الموثوق فيجد عنده كل الدعم ليقوم بمهمته. هذه الشبكات القائمة على العلاقة المباشرة تكون، إلى حد كبير، غير قابلة للاختراق، وبالتالي تمنح من يتبعها قدرة على الاستمرار تفوق قدرة الأشكال التنظيمية الأخرى، فضلاً عن أن التواصل في ظلها مؤمّن تمامًا. وخلال فترة طويلة طور فرسان الهيكل هذه التقاليد ليمتلكوا باستخدامها أكبر شبكة مالية عرفها التاريخ، ومنها تطورها ظهرت «البنوك». وقد عادت هذه التقاليد إلى الحياة «حرفيًا» في نهاية القرن العشرين على يد «تنظيم القاعدة» الذي تمكن، إلى جانب الوسائل التقليدية في التواصل ونقل الأموال، على شبكة من «الرجال الموثوقين» في دول عدة نقلوا من خلالهم الأموال والمعلومات والتكليفات، بعيدًا عن أي نوع ممكن من أنواع الرقابة أو الاختراق. وهذا الصراع بين التبسيط والتعقيد أحد وجوه الصراع بين «القاعدة» و«داعش» وحلفائهما، من ناحية، وبين الدول من ناحية أخرى. من العالم الحقيقي إلى الافتراضي خلال السنوات التي أعقبت ظهور وسائل الإعلام الاجتماعي على شبكة الإنترنت كان من الطبيعي توقع أن تتحول إلى ساحات للتجنيد ونقل التعليمات والخبرات، فضلاً عن دورها ظهيرا إعلاميا غير تقليدي. وبطبيعة الحال، أصبحت الحرية والخصوصية مكانًا ملائمًا لـ«الاختباء»، وخلال السنوات القليلة ثمة دراسات كثيرة تكشف الأدوار التي قامت بها مواقع اجتماعية على الإنترنت لتجنيد المناصرين، ولاحقًا المستعدين للانخراط في العنف، لكن القديم لم تطُ صفحته، بل ظهرت صيغ «هجين» تتسم بقدر كبير من المرونة مكنت التنظيمات، أولاً أن تتحول، في حالات، كثيرة إلى «ملهم» يحفز ويمنح الراغب في القيام بعمل منفرد يناصر به منشروعها أن يخطط للقيام بعمل عنيف منفردًا أو بالشراكة مع عدد محدود من الشركاء أيًا كان مكان إقامته. ومع التحول إلى خليط من الوسائل بعضها أحادية الاستخدام «سلاح ناري – قنبلة – حزام ناسف» إلى وسائل مزدوجة الاستخدام «سيارة – شاحنة – سكين» أصبح بالإمكان جعل الأجهزة الأمنية كما لو كانت تتحرك في ظلام دامس. وتحت وطأة صدمة الغرب الناجمة عن انخراط عدد ليس بالقليل من مواطنيه، سواء كانوا من أصول أجنبية أم لا، في صفوف «داعش» كان الاهتمام بالعالم الافتراضي يطغى بقوة على الاهتمام بالعالم الحقيقي. وخلال العام الماضي تكرر الكشف عن أن شبكة الإنترنت لعبت الدور الأكبر في عمليات التجنيد، لكن ما لم تتوقعه أجهزة الأمن الغربية هذه المزاوجة بين: «التجنيد الافتراضي» و«التنفيذ الواقعي». ففي يونيو (حزيران) من عام 2016 قام شاب عشريني بقتل شرطي فرنسي وزوجته ذبحًا داخل منزلهما في مدينة ماينانفيل الفرنسية، في يوليو (تموز) اقتحم مسلحان كنيسة «سانت إتيان دو روفراي» في منطقة نورماندي شمال فرنسا، وذبحا كاهنا. وفي هجوم نيس دهست شاحنة بضائع كُبرى يقودها سائق فرنسي من أصل تونسي، حشدًا من الجماهير الحاضرين أثناء مشاهدة الألعاب النارية خلال احتفالات العيد الوطني الفرنسي، المعروف باسم «يوم الباستيل»، في مدينة نيس الواقِعة جنوب فرنسا. وكان حجم عدد الضحايا في الحادث «84 قتيلاً – على الأقل – وإصابة المئات» مؤشرًا على حجم الرعب الذي يمكن أن ينجم عن استخدام مفردة من مفردات الحياة اليومية لتنفيذ عمل إرهابي. وتكرر هذا في هجوم برلين، حيث اقتحمت شاحنة كبيرة سوقًا لأعياد الميلاد وسط برلين، في 19 ديسمبر (كانون الأول)؛ ما أسفر عن سقوط 12 شخصًا على الأقل وإصابة 48. المعايير والتخمة المعلوماتية من الثغرات التي تكشف عنها تجارب العام الماضي «الدموية» أن المعلومات تشكل أحد أهم مشكلات مكافحة الإرهاب، في حالتي: «الندرة» و«التخمة»، فضلاً عن أن تكون هناك خلافات سياسية أو ثقافية فيما يتصل بتعريف الإرهاب أو درجة التسييس التي يتسم بها عمل بعض الدول فيما يتصل بالإرهاب. ففي ظل وجود خلافات كبيرة بين الدول الغربية وشركائها، وبخاصة في العالمين العربي والإسلامي، ثمة «إعادة تقييم» تتم للمعلومات على نحو يجعل بعضها يتم إهماله بسبب تحفظ من يحصل على المعلومات على «معايير» الطرف الذي يقدم المعلومات لاعتبار جماعة أو شخصًا مصنفًا كإرهابي. وعلى سبيل المثال، كشف موقع ألماني عن تحذير المخابرات المغربية لنظيرتها الألمانية من احتمال إقدام المواطن التونسي أنيس عامري على تنفيذ هجوم إرهابي على أراضيها قبل أشهر من قيامه بعملية. وحسب موقع «فيلت»، فإن السلطات الأمنية المغربية سبق أن أرسلت تحذيرين عبر البريد الإلكتروني للسلطات الأمنية الألمانية حول احتمال إقدام أنيس عامري لتنفيذ هجوم إرهابي على أراضيها. وأن مصادر موثوقة من الاستخبارات الغربية هي التي سربت هذه المعلومات. بل إن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أكد، أن السلطات التركية اعتقلت أحد منفذي هجمات بروكسل الإرهابية، في ولاية غازي عنتاب، وسلّمته للسلطات البلجيكية محذرة إياهم منه، إلا أن الأخيرة تجاهلت ذلك وأطلقت سراحه. ومما يؤكد تأثير الخلافات «القانونية- السياسية- الثقافية» في كفاءة وجدية التعامل مع المعلومات المتبادلة في إطار مكافحة الإرهاب، أن الرئيس التركي دعا، في تعقيبه على هذه المعلومات، إلى القيام بتعريف الإرهاب لكي يصبح بالإمكان التعامل مع الأزمة، مؤكدًا: «لو اتفق العالم وسعى بجد لإيجاد حل لقضية الإرهاب، حينها نستطيع اقتلاع الإرهاب من جذوره». وفي تعقيب على وقائع هجوم ميونيخ «يوليو 2016»، كان الخطاب الروسي، شبه الرسمي، مثالاً على الخلافات السياسية العميقة فيما يتصل بـ«الثغرات» التي يتسلل منها الخطر الإرهابي، فحسب تحليل لـ«روسيا اليوم»، على ألمانيا: أولاً، التعامل بحزم مع المؤسسات والمنظمات السلفية ألقابعة على أراضيها، التي تدعو إلى التطرف وإرسال الجهاديين إلى سوريا والعراق. وعليها ثانيًا، ضبط حدودها أمام الموجات البشرية، والتأكد من هوية القادمين الجدد قبل استقبالهم. فـ«الأمن القومي لأي بلد أهم من المشاعر الإنسانية التي غالبًا ما تكون مزدوجة المعايير». وثالثًا، على الدول الغربية الضغط على حلفائها في الشرق الأوسط، فهذه الدول تصدر الإيديولوجيات الراديكالية ليس إلى أوروبا فحسب، بل إلى كل أنحاء العالم. وهذا التحريض الروسي يمثل نموذجًا للتحريض على الحريات والحقوق الإنسانية بدعوى مكافحة الإرهاب، وهو خطاب يتجاهل عمدًا مصادر تهديد حقيقية للإرهاب تنبع من منابع مغايرة تمامًا، فعلى سبيل المثال، في 3 فبراير (شباط) 2015 وبعد أسابيع قليلة من اعتداءات يناير (كانون الثاني) في باريس التي استهدفت صحيفة «شارلي إيبدو» ومتجرا يهوديا وشرطية، اعتدى موسى كوليبالي، وهو من ضواحي باريس، بسكين على ثلاثة عسكريين كانوا يحرسون مركزًا يهوديًا. وأثناء احتجازه عبر عن كرهه لـ: «فرنسا والشرطة والعسكريين واليهود»، وهو مركّب فكري يميني متشدد لا صلة له لا بالفكر السلفي الإسلامي ولا بالهجرة المتدفقة على أوروبا. ثمن فشل الإدماج من المصادر الواقعية المتعينة التي لا يجادل منصف في أنها خلقت نطاقات «الإرهاب المحتمل» الظاهرة والكامنة معًا، الفشل الجزئي المزمن لسياسات كثير من الدول الأوروبية إزاء المهاجرين. فعلي عكس وجهة النظر الروسية شبه الرسمية، وهي عينة ممثلة للخطاب الشمولي اليميني، يرى باحثون وسياسيون أن سياسات التهميش الأوروبية إحدى أهم الثغرات التي ينبغي علاجها في منظومة مكافحة الإرهاب. وعلى سبيل المثال، طرح الكاتب المغربي الدكتور حسين مجدوبي هذا الجانب من القضية بوضوح «تفجيرات باريس الإرهابية: الفشل الاستخباراتي والخلل الأبدي في إشكالية الاندماج، مقال، جريدة (القدس العربي) اللندنية – 17- 11- 2015»، مشيرًا إلى تحديين كبيرين، يطرحهما الخطر الإرهابي: الأول، إشكالية الاندماج الفاشلة حتى الآن، والآخر إشكالية تعايش المسلمين وسط المجتمعات الأوروبية وبين الغرب والشرق الممثل في العالم الإسلامي، وأساسًا العربي منه. فلم يعد الإرهابي ذلك الشبح القادم من الضفة الجنوبية للمتوسط، بل المهاجر الذي عادة ما يكون منغمسًا في الإجرام الجنائي، ويتحول فجأة إلى «إرهابي». ويكشف هذا الخطاب في الوقت ذاته، وعي الدول الأوروبية بأن المعضلة هي إشكالية الاندماج. وعلى عكس ما هو شائع من صورة نمطية تربط الانعزال في المجتمعات الأوروبية بـ«متدينين» أو سلفيين يرفضون الانخراط في مجتمعاتهم يكشف الكاتب المغاربي عن أن التهميش ليس اختيارًا، بل هو «مفروض» على الجميع، يقول: «ويشعر أفراد الجاليتين العربية والإسلامية، بمن فيهم اليساريون والليبراليون بأنهم يكادون يعيشون في عالم خاص بهم بسبب سياسة التهميش. وهذا النموذج الأوروبي لم يستفد من النموذج الأميركي الذي يسهل الاندماج». وتبقى الثغرات تهدد منظومة مكافحة الإرهاب، ويبقى طغيان الاهتمام بـ«العالم الافتراضي» الذي مجرد وسيلة ومرآة للتناقضات التي هي متعينة في الواقع بأبعاده السياسية والثقافية والقانونية، وهذه الثنائية: الانشغال بالعالم الافتراضي، وإهمال العالم الحقيقي، فضلاً عن الجذور الفكرية للمفاهيم الحاكمة للتصورات والمعايير التي يتم الاحتكام إليها في اختيار الوسائل وحدود الفعل ووجهته، أحد أخطر مشكلات اللحظة.
مشاركة :