تهتم الأوساط الدبلوماسية الأوروبية بمعركة «لي الذراع» الجارية حاليا بين أنقرة وطهران بشأن الملف السوري ودور «الحكم» بينهما الذي تضطر موسكو للقيام به للمحافظة على «التفاهم الثلاثي». وهو الاتفاق الذي برز في اجتماع العاصمة الروسية يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي والذي، في 28 منه، مهد للإعلان عن اتفاق روسي - تركي لوقف الأعمال العدائية وإعادة إطلاق العملية السياسية، ولكن هذه المرة في آستانة عاصمة كازاخستان. السؤال الأول الذي برز مباشرة، والذي لم يجد له إجابة مقنعة حتى اليوم، يتناول سبب استبعاد إيران عن الاتفاق الثنائي، لا سيما أنها، كما روسيا، طرف داعم للنظام السوري منذ الأساس ولها قدرة التأثير عليه، وكذلك التشويش على الاتفاق المذكور، لا بل القدرة على تخريبه عبر النظام نفسه والمجموعات التي تأتمر بأمرها في سوريا. تقول الأوساط المشار إليها إن النتيجة «المباشرة» للاتفاق الثنائي أنه، من جهة، دفع بتركيا إلى واجهة الأحداث السورية وأعطاها دورا أوليا في التأثير على مجرياتها اللاحقة. وهو، من جهة ثانية، أبان عن ضمور الدور الإيراني «الظاهري» وأعاد إلى الأذهان الحجة الروسية التي كان الدبلوماسيون الروس يستخدمونها في لقاءاتهم المتكررة خاصة مع المسؤولين الخليجيين وقوامها أن أحد أسباب تدخلهم الكثيف في سوريا هو «لجم الدور الإيراني» في هذا البلد. وبدا في الأيام الأخيرة التنازع التركي - الإيراني على أشده من خلال اتهامات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو المباشرة لإيران التي حملها بشكل غير مباشر مسؤولية اشتداد المعارك في وادي بردى، والرد الإيراني القائل إن مثل هذه التصريحات «تزيد تأزيم» الوضع في سوريا. كذلك تبارز الطرفان من خلال دعوة أنقرة لخروج كل الميليشيات، وأولها ما يسمى «حزب الله» من سوريا، والرد الإيراني القائل إن الأخير سيبقى في سوريا حتى بعد انتهاء الحرب من أجل محاربة الإرهاب. وتصف طهران القوات التركية الموجودة داخل الأراضي السورية في إطار «درع الفرات» بـ«المحتلة» بسبب عبورها الحدود من غير موافقة النظام السوري في حين تزعم أن ما يسمى «حزب الله» موجود «بناء على دعوة» منه. منذ العام 2011، اختار اللاعبان التركي والإيراني طرفي نزاع سوريا لتوفير الدعم والمساندة له. ورغم «الاستدارة» التي اضطر الرئيس التركي طيب رجب إردوغان للقيام بها بعد انقلاب الصيف الماضي الذي كاد أن يطيح به ما دفعه للتقرب من موسكو رغم نتائج إسقاط المقاتلة الروسية في خريف العام 2015، ما زالت المواقف التركية - الإيرانية متباعدة. وتعزو المصادر الغربية ذلك لتضارب المصالح والأهداف في سوريا. وهي تعتبر أن لطهران «مصلحة» في التشويش على اتفاق وقف إطلاق النار من أجل تحقيق غرضين: الأول، إظهار أن دورها في سوريا ما زال فاعلا ومرجعيا، وأن من غير موافقتها سيكون من الصعب التوصل إلى وقف جدي للأعمال العدائية. والثاني، مفاده أن طهران تريد أن تكون الشريك الفاعل في العملية السياسية والجهة القادرة على التأثير في المسار السياسي أي في مسألة السلم والحرب في سوريا. وتذهب الأوساط الغربية أبعد من ذلك لأنها تدخل في المعادلة الطرف الأميركي ورغبة طهران في استخدام الورقة السورية للمساومة مع الإدارة الأميركية الجديدة التي تدل كل المؤشرات على أن سياستها إزاء طهران ستكون «متشددة» وربما أكثر من ذلك. والخلاصة التي تصل إليها المصادر الغربية أن الجانب الإيراني سيكون «حريصا» على إظهار استمرار «تمكنه» من الملف السوري ومن امتداداته الإقليمية إن شرقا باتجاه العراق أو غربا باتجاه لبنان. وبالتالي، فإن إيران ستكون اليوم وغدا أكثر تمسكا بورقة «رابحة» في استراتيجيتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية. وبالتالي، فإن همها الأول هو أن تتحاشى التهميش «الثنائي» تركيا وروسيا. بمواجهة طهران، ترى المصادر الغربية أن أنقرة حققت نجاحات «تكتيكية» في الملف السوري رغم حالة الضعف الداخلي المترتبة على محاولة الانقلاب من جهة وعلى العمليات الإرهابية التي تضرب المدن التركية وعجز السلطات الأمنية عن وضع حد لها. ويعد الضوء الأخضر الذي حصلت عليه أنقرة من روسيا بإطلاق عملية «درع الفرات» في 24 أغسطس (آب) الماضي تحت مسمى توفير الدعم لكتائب من الجيش السوري الحر أولى الثمار التي قطفتها. ورغم الصعوبة التي تواجهها القوات التركية ومعها قوات الجيش السوري الحر في السيطرة على مدينة الباب والخسائر البشرية التي لحقت بقواتها على يد «داعش»، فإن تركيا تعتبر أنها أجهضت حلم أكراد سوريا بإقامة منطقة متصلة جغرافيا من أقصى الشمال الشرقي وحتى الطرف الشمالي الغربي وذلك من خلال السيطرة على المنطقة الواقعة ما بين مدينتي أعزاز وجرابلس في ريف حلب الشمالي. كذلك، فإن تركيا نجحت في المناورة، إذ استغلت تقاربها مع موسكو للضغط على واشنطن، كما استفادت من الدعم العسكري الروسي المباشر في معركة الباب لتقضي على الحلم الكردي لا بل يبدو أنها نجحت في استبعاد الأكراد عن طاولة التفاوض في آستانة بسبب «الفيتو» الذي تضعه والذي تعتبر بموجبه أن ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية منظمة «إرهابية» مثل حزب العمال الكردستاني الذي تحاربه داخل حدودها وخارجها. كذلك لا تفوت أنقرة فرصة لـ«ابتزاز» واشنطن تارة عبر التلويح بإغلاق قاعدة أنجيرليك بوجه القوات الأميركية والأطلسية الجوية وطورا برفض الانخراط في معركة تحرير الرقة إذا ما شاركت فيها الميليشيات الكردية. المصادر الدبلوماسية الغربية تقول أيضا إن المكسب الثاني لتركيا من دخولها الأراضي السورية وتمكنها من السيطرة، وإن على رقعة ضيقة منها، مكنها من امتلاك ورقة للمساومة لا سيما إذا بقي تفاهمها مع روسيا قائما على حاله أو إذا توسع. وسيعني ذلك أنها أقامت فعليا «منطقة آمنة» في ريف محافظة حلب الشمالي لن تستطيع قوات نظام دمشق مهاجمتها لأن أمرا كهذا سيعني حربا مفتوحة بين البلدين لا يريدها أحد. وليس سرا أن أنقرة كانت تتخوف من الخطط الأميركية في سوريا، وربما من ميل أميركي للسماح للأكراد بإقامة منطقة مستقلة على غرار كردستان العراق ما سينعكس سلبيا على أكراد تركيا الذين يزيد عددهم على عشرة ملايين شخص وعلى مطالبهم «القومية». في أي حال، الثابت اليوم أن التنافس التركي - الإيراني مستمر في سوريا، وأن كلاً من الطرفين سيسعى من خلال التحالفات الخارجية ومن خلال تحريك أدوات الداخل للمحافظة على مصالحه. وتجد طهران أن لديها منافسين رئيسيين في سوريا هما موسكو وأنقرة رغم أن أهدافهما ليست بالضرورة متطابقة، وهو ما يترك هامشا للمناورة ستبرز بلا شك - وفق المصادر الغربية - في محطة آستانة وما سيليها من محطات.
مشاركة :