بطل ضد نفسه يستبدل لسانه بورقة وقلم تبقى الرواية من أهم الأجناس الأدبية التي يمكنها أن تغوص في أعماق الذوات البشرية وحكاياها، ويتم ذلك للروائي من خلال شخوصه التي يخلقها على الورق ويهبها دما ووجودا حقيقيا جسدا وفكرا، شخصيات تتمكن من الإفصاح عن الكثير من القضايا ومعايشة القارئ بكل ما تحمله من مخزون نفسي وفكري ودلالي. العربممدوح فرّاج النّابي [نُشرفي2017/01/07، العدد: 10505، ص(17)] جسد وسيلة للانتهاك يتخذ الكاتب محمد عبدالنبي في روايته الجديدة «في غرفة العنكبوت» من حادثة “الكوين توب” الشهيرة التي وقعت في بداية الألفية الثالثة، عندما داهمت سلطات الأمن المصرية مركب “الكوين توين” على النيل، وألقت القبض على إثنين وخمسين مثليا، وتمّ توجيه اتهامات لهم بازدراء الأديان وممارسة الفجور، موضوعا لروايته وإن كان لا يعيد الحادثة أو يتخذ من روايته وسيلة دفاع أو واجهة تبرير لما حدث. كشف المستور الحقيقة أن نص محمد عبدالنبي يختلف عن النصوص السابقة التي تناولت هذه الثيمة كجزء من بنيتها أو كبنية كليّة تَدور في فلكها الرواية، مرجع هذا الاختلاف يعود إلى أن جميع الأعمال التي تناولت المثليّة الجنسية، اتفقت على أن عامل الفقر والظروف الاجتماعيّة هما الدافعان من وراء هذه المغامرة، فقدّم تنويعة مختلفة من الشخصيات التي وقعت في هذه الغواية، على اختلاف الأسباب ليس من بينها الفقر، فهاني محفوظ كان يرى نفسه عاشقا، وهو ما تأكد فعليا عندما التقى عبدالعزيز، هام حبا به، ولم يدخر كل وسيلة حتى جمع الفراش بينهما. كما أن بطله الرئيسي هاني محفوظ وصديقه عبدالعزيز ينتميان إلى أسرتين ثريتين، بل إن عبدالعزيز ينتمي إلى أسرة ذات وجاهة اجتماعية بعض الشيء، وما يرجّح قبول العامل النفسي ليكون هو الدافع للشخصيات للسعى إلى هذه المحبة من جنسها، أن العقوبات التي تعرض لها عبدالعزيز من أخيه ثم أبيه عندما اكتشف الاثنان علاقته، لم تعدل من مساره نهائيا، توقف فترة ثم واصل جنوحه. والشيء الثاني المميّز هو أن المؤلف لم يجعل بطله ضحية كما فعلت السّردية العربيّة، بل مثلما كان ضحية لعلاقته بأمه المتوترة وغيابها الدائم، الذي كان سببا في الوحدة التي أوقعته في مأزق هذه الممارسة مع رأفت، ثم تحوّل هو نفسه إلى جلّاد عندما انصاع لضغوط أمه بالزواج، فحطّم أسرته كاملة؛ زوجته شيرين وابنته درية دون أن يكونا شريكيْن في شيء، علاوة على أنه مارس ضغوطا على عبدالعزيز الذي عشقه، ومن أدوار الجلّاد التي مارسها ما كان تأثيره كبيرا على أسماء خطيبة عبدالعزيز، فحدث الصدام بينهما وحُلّت الخطوبة. ترصد الرواية، الصادرة عام 2016 عن دار العين للنشر والتوزيع بالقاهرة، في أحد جوانبها المهمّة تفاصيل عالم المثليّة وما يحدث فيه من علاقات، وكذلك طبيعة الشخصيات السّلبية والإيجابية ومواقع اصطياد الزبائن وطقوسهم الاحتفائية، وما يتعرضون له في بعض الأحيان من معاملة سيئة من الطرف الثاني تبدأ بالابتزاز وأحيانا تصل إلى العنف. لكن اللافت أن المؤلف صوّر النظرة العدائية إلى هؤلاء المثليين من قبل أفراد المجتمع، وحالة الإفراط في تحقيرهم والتعامل معهم على هذه الصفة بغض النظر عن وظائفهم أو أوضاعهم الاجتماعية، ثم ركّز على وصف التجاوزات التي ارتكبتها الشرطة، كما يرصد الدور السلبي للصحافة منذ بداية القضية، وما قامت به من تسليط الضوء على عائلات الضحايا، وهو ما يجعل الرواية بمثابة كشف المستور لهذا العالم وتعريته من الداخل. حالة الاطراد والتعقّب لكافة أشكال الامتهان التي كان عليها الراوي وهو يرصد هذه الوقائع تُوحي بأنه يمهد الأجواء لحالة من التعاطف من قبل الآخرين لصالحه، ولكن الصحيح أن المؤلف المتماهي مع الراوي لا يريد التعاطف مع الضحية، بقدر إدانة الجلّاد، الذي استغلّ الأضعف وانتهك كرامته، أيّا كانت صورة الجلّاد متحققة في أجهزة الدولة أو الصحافة أو حتى نظرة الناس السلبية. ولد يشتري المحبة يكتب بطل الرواية هاني محفوظ سيرته وأوجاعه وأيضا انكساراته عبر دفاتر بعدما أصيب بفقد الكلام، بعد القبض عليه، يستمر في الاستعاضة بالورقة والقلم كبديل عن اللسان يستدعي في الذاكرة كامل رؤبة لاظ بطل رواية نجيب محفوظ السراب، مع اختلاف تركيبة الشخصيتين، إلا أن المشترك بينهما واضح ولا تنكره العين، فكلاهما كان ضحية لتأثير الأم. هنا في رواية محمد عبدالنبي كان بسبب دلال الأم وحالة الرفاهية التي كانت تجعله يعود إليها مسرعا بعد كل خلاف بينهما، وعند نجيب محفوظ كان بسبب صرامة الأم وتدخلاتها التي جعلته عاجزا ومكبّلا عن الاعتماد على نفسه. وفي النموذجين انتهى البطلان إلى ارتكاب جريمة، بطل محفوظ الأول في حقّ زوجته، وبطل عبدالنبي في حقّ نفسه وحق زوجته وزاد عليها حق ابنته بدرية. ومثلما كان بطل محفوظ ضدا، فكذلك هي شخصية هاني محفوظ المثلي، هي نموذج للبطل الضدّ الذي واجه أنانية أمه التي لم تجد الوقت للاستماع له، بالانغلاق على ذاته، ومن ثمّ أقدم على ما أقدم عليه إلا ليحقّق لذاته استقلاليتها، ليس بالتمرد وإنما بتحقيق اللذة والمتعة، فالبطل هنا مستسلم إلى درجة أنه في كل معركة خاسرة كان يعاقب نفسه، فعندما صدمته الأم بأن لا وقت لديها بسبب عملها في التمثيل، على الفور ألقى بنفسه بين يدي رأفت، تكرّرت حالة المواجهة والعقاب لنفسه في أكثر من مرة. لا أميل إلى وصف الرواية بأنها عن المثلية الجنسية، حتى وإن طرحت الموضوع بأسبابه المتعددة، ونقلت لنا عوالم المثلييين، وظروف معيشتهم وأوكارهم ونظرة المجتمع إليهم، ومع الأهمية لكل هذا فالرواية ليست عن المثلية أو تدافع عنها، أو تبرر دوافع لجوء أبطالها إليها، وإنما في ظني هي رواية نفسية عن أزمات شخصيات (أبطال مأزومين) لا تبدأ عند هاني محفوظ أكثر الشخصيات تأزما، وقهرا لذاتها، تعامل مع واقعه بسلبية، حتى بعد خروجه من السجن وضع نفسه في سجن غرفة فندق البرنس، وكأنه أعلن استسلامه وجعل من جسده وسيلة للانتهاك، ومن ثم أدرك أن الماء لن يطهره، فثمة بقعة في داخله تحتاج إلى النقاء، أو حتى تنتهي عند أمه وخالته المطربة حسنية، وإنما تشمل الشخصيات جميعا الذين مروا على ذاكرة هاني أو جسده مثل البرنس وكريم سعدون وعبدالعزيز وعُمر نور، وقبلهم رأفت الذي أسقط هاني في الفخ وصدمه بزواجه ثم عرض عليه أن يستمر مع صديقه البدين. اعتمد المؤلف لغة قاسية لم تألفها السردية العربية، إلا في استثناءات نادرة، لكن توظيف المفردات في سياقها ألبسها لبوسا مغايرا عن استخدامها في التداول اليومي المستهجن. كما أنه استخدم مفردات في غير سياقها إلا أنها أدّت الدلالة بحرفية كما في لفظة “حبايبنا” التي كانت تشير إلى المثليين. لا يخفى ولع عبدالنبي في كتاباته بصفة عامة بالتجريب الذي مارسه هنا، وإن كان بمساحة قليلة، حيث جاء نصّه موزّعا بين حكاية هاني محفوظ عبر دفتر يومياته، وحكاية السجن منذ لحظة اعتقاله هو وصديقه عبدالعزيز في ميدان التحرير، وتنتهي عند ذات المشهد الأوّل مع اختلاف النهايات، لكنْ ثمة زمن استرجاعي هو قائم في ذكريات هاني وسرده عن ذاته وتاريخ عائلته. :: اقرأ أيضاً رامي العاشق: الإنسان أهم من المدن وأقدم وأبقى ترجمة جديدة لكتاب الاستشراق تعيدنا إلى جدل الشرق والغرب طبيب نفسي يتحول إلى سيزيف جديد مريض نفسي يكتب مذكراته في مصحة الكوثر
مشاركة :