غالباً ما نميل إلى والتعامل معها على أنها حقائق مسلَّمة، بل إن الكثيرين يحبون تعريف أنفسهم على أنهم صندوق ذكريات. ولكن التجارب تكشف أن بعض الذكريات ربما غير حقيقية، وأسباب ذلك قد تكون مرضية مثل مرض "اضطرابات ما بعد الصدمة"، أو قد تحدث لأشخاص طبيعيين بفعل عامل خارجي. التلاعب بالتفاصيل وتمت الإشارة إلى هذه الحالة لأول مرة من قبل عالمي النفس الشهيرين سيغموند فرويد وبيير جانيت، وتعرف هذه الحالة في شقها المرضي باسم "متلازمة الذكريات الكاذبة". وعادة ما يتم رصد هذه الحالة لدى الأشخاص الذين يتعرضون لأنواع من الاضطرابات النفسية وخاصة ولكن أثبتت أن عالم الذكريات الكاذبة ليس مرتبطاً فقط بالمرضى ولكنه يحدث أيضاً لدى الأشخاص الطبيعيين. تخيل مثلاً أنك تسير في الشارع في مواجهة شخص ما رأيته بوضوح، ثم بعد أن مر الشخص بدأت في تذكر بعض الأمور عنه. تتذكّر أنه كان يحمل حقيبة ولكنك لست متأكداً بالتحديد من لون هذه الحقيبة، هل كانت حقيبته بنية اللون، أم أن سترته هي التي كانت بنية؟ ويبدأ ذهنك الآن في توليد البدائل ومزجها ببعضها البعض وتبدأ الأحداث في التشوه في ذاكرتك. في العام 1974 قام لوفتس وبالمر بإجراء ، إذ قام الباحثان بعرض حادث اصطدام سيارتين على مجموعات منفصلة من المشاهدين، وطلبوا من كل مجموعة تقدير سرعة سير السيارتين قبل اصطدامهما. كان مربط الفرس في التجربة هو استخدام الباحثين لصيغ متفاوتة الحدة لوصف الحادث عند سؤال كل مجموعة. على سبيل المثال، استخدمت صيغة "كم كانت سرعة السيارتين أثناء هذا الاصطدام" في مقابل صيغة "كم كانت سرعة السيارتين في هذا الحادث المروع" لمجموعة أخرى. ووجد الباحثان أن الناس كانوا يميلون إلى اختيار تقديرات كبيرة للسرعة كلما كان اللفظ المستخدم في توجيه التساؤل أكثر حدة. وجه الباحثان سؤالاً آخر للمجموعات حول إذا ما كانوا قد رأوا الزجاج المتكسر لنوافذ السيارات، ومرة أخرى وجدوا أن المجموعات التي استخدمت معها ألفاظاً أكثر حدة كانت أكثر ميلاً لتأكيد أنها رأت تحطم الزجاج. سأل الباحثان المجموعات أيضاً حول إذا ما كانوا قد رأوا "إشارة توقف" على الطريق، ولكنهم استخدموا لفظ "إشارة توقف" مع إحدى المجموعات ولفظ "إشارة التوقف" مع مجموعة أخرى، ووجدوا أن نسبة تذكر رؤية الإشارة زادت بشكل ملحوظ في المجموعة التي استخدمت معها صيغة التعريف "إشارة التوقف". سلطت هذه التجربة الضوء حول مدى قدرة تغيير الألفاظ على التلاعب بتفاصيل ذكرياتنا. ولكن الأمر لا يقتصر على التفاصيل، الأمر الأكثر إثارة، فأذهاننا قادرة على اختزان ذكريات مختلقة ليس لها أي جذور في عالم الواقع. قراصنة الذاكرة في العام 1997 أجرى جيمس كون تجربة مع بعض أفراد عائلته، وأعد تحتوي على ذكريات حقيقية تخص أفراد عائلته وقام بتوزيعها عليهم. ضمن هذا الكتيب كانت هناك قصة واحدة مختلقة كلياً تتعلق بفقدان شقيقه في المول أثناء التسوق حين كان صبياً ووجده أحد الرجال وقام بإعادته إلى أسرته. وطلب كون من كل من أفراد عائلته أن يحكي ما يذكره عن تفاصيل هذه الذكريات، الغريب في الأمر لم يكن عدم انتباه شقيقه إلى الحكاية المختلقة، فربما يكون ذلك عائداً للنسيان، ولكن الأخ قام بإنتاج تفاصيل حسية كاملة حول حكاية اختطافه المختلقة، كما قام باستدعاء مشاعر متعلقة بالواقعة. يمكن للذكريات الزائفة أن تتولد ببساطة من قبل أي شخص كصديق أو عن طريق أحد أفراد العائلة كما حدث في تجربة كون. هذا التلاعب يمكن أن يتم بشكل عمدي إذاً، سواء كان بغرض العبث أو لخدمة أغراض بعينها، وغالباً ما يطلق الباحثون على هؤلاء . وتحكي جوليا شاو تجربتها كقرصان للذاكرة أنها استطاعت من خلال 3 مقابلات فقط إقناع بعض المشاركين بأنهم مروا بأحداث عاطفية لم تحدث لهم مطلقاً. ويتم ذلك في خلال المزج بين المعلومات المضللة والخيال والتكرار، ووجدت شاو أنه يمكن خلق ذكريات كاذبة عند 75% من البشر الذين يتعرضون لهذه المؤثرات وإقناعهم بتقديم تفاصيل "متعددة الحواس" حول تجارب لم يمروا بها أصلاً. العجيب أن هذا الأمر لم يكن مرتبطاً بأشخاص مصابين باضطرابات نفسية أو حتى أناس من ذوي الذكاء المنخفض، ولكن التجارب أثبتت أنه بالإمكان خلقحتى عند الأشخاص الأكثر ذكاء. هل يمكن أن نثق في نظامنا المعرفي؟ هل ذكرياتنا حقاً هشة ويمكن التلاعب بها إلى هذه الدرجة؟ وإلى أي مدى يمثل تهديداً للعديد من النظم القائمة بالأساس على الثقة في قدراتنا المعرفية؟ إذا كان بالإمكان توليد ذكريات كاذبة من خلال لعبة بين الأصدقاء، فبالتأكيد أن احتمالية ذلك ترتفع خلال التقنيات المعززة التي تستخدم في العلاج النفسي أو الاستجواب الشرطي، وهو ما يفتح باباً كبيراً للتشكيك في مصداقية الشهادات التي يتم تقديمها إلى المحاكم وإمكانية التلاعب بها بشكل كلي أو حتى دفع البعض إلى الاعتراف ب لم يقوموا بارتكابها، أو دفعهم إلى اتهام أبرياء، حيث تم بالفعل توثيق العديد من الحالات. في العام 1992، كان أحد ناصحي الكنيسة في ولاية ميسوري يساعد بيت روثرفورد على تذكر بعض الحوادث في حياتها. ومن ضمن تلك الحوادث أن والدها، رجل الدين، قام باغتصابها عدة مرات بمساعدة والدتها، وبمساعدة معالجها، نجحت روثرفورد في تذكر حادثتين قام والدها خلالهما باغتصابها حتى حملت منه ثم تم إجبارها على الإجهاض. وتسببت هذه الادعاءات في استقالة والدها رجل الدين من منصبه بعد أن تم تقديمها للجمهور. ولكن المفاجأة أن الفحص الطبي اللاحق للابنة كشف أنها لا تزال عذراء وأنها لم تحمل قط من قبل، قامت الابنة برفع دعوة قضائية ضد المعالج وتلقت تعويضاً قدره مليون دولار عام 1996. قبل ذلك بثمانية أعوام، وتحديداً في العام 1986، كانت نادين كول مساعدة ممرضة في ولاية ويسكنونسن الأميركية، نتيجة لصدمة أصابتها بعد حادث وقع لابنتها. وأثناء العلاج استخدم الطبيب التنويم المغناطيسي وبعض تقنيات العلاج الأخرى من أجل إخراج الذكريات المدفونة لسوء المعاملة التي زعمت نادين أنها تعرضت لها. ولكن هذه الجلسات أخرجت ذكريات أخرى أكثر بشاعة بداية من انخراطها في طقوس عبادة شيطانية إلى أكل لحوم الأطفال والتعرض للاغتصاب، وحتى ممارسة الجنس مع الحيوانات. ولكن كول أدركت في النهاية أن جميع هذه الذكريات كانت كاذبة، وقامت برفع قضية على طبيبها تمت تسويتها في النهاية خارج المحكمة مقابل تعويض بلغت قيمته 2.4 مليون دولار. هل الأمر سيئ حقاً؟ يبدو الأمر مرعباً بهذا الشكل، لكن العلماء يبحثون الآن إمكانية استخدام تقنيات قرصنة الذاكرة تلك في بعض التطبيقات العلاجية المفيدة مثل التلاعب بذاكرة مرضى السمنة المفرطة تجاه الأطعمة المحببة لديهم. ففي جديد موله صندوق "ويلكوم" ونشرته مجلة علم النفس المعرفي التطبيقي تم وصف علاج الذاكرة الكاذبة لألف شخص تقريباً من العامة في بريطانيا وأميركا، ودون معرفة هذا الشخص. ويحاول المعالج زرع أحداث مفبركة حول الطفولة في ذاكرته، أو أحداث مصممة لتغيير علاقته غير الصحية مع الأطعمة الدسمة. الغريب أن الكثير ممن تعرضوا لهذا الأمر لم يكونوا قادرين على اكتشاف الحقيقة حتى بعد مرور أشهر من بدء هذا العلاج. ولكن هناك أسئلة كثيرة تدور حول مدى أخلاقية استخدام مثل هذا العلاج الوهمي، مع إمكانية استخدامه لتحقيق أهداف لا تقتصر على التلاعب الفردي بذاكرتنا ولكن ربما بتلاعب جماعي.
مشاركة :