محمد رُضا لا يدري أحد ما إذا كان جاك نيكلسون سيواجه الكاميرا مجدداً أم لا، فلا يوجد دليل منه يفنّد هذا الاحتمال، ولا عروض توفرها له هوليوود. البعض يقول إنه انتهى، وأصابه الزهايمر، بحيث نسي أنه ولد في 28 ابريل 1937 قبل 79 سنة، أو ربما أراد هو أن ينسى، أن رحلته السينمائية استمرت أكثر من 60 عاماً. فصل كبير من الحياة السينمائية يذهب مع رياح الأيام. آخر فيلم له بعنوان كيف تعلم في 2010، وقبله حمل عنواناً رمزياً مثيراً للاهتمام كونه يدل الآن على العكس أنا ما زلت هنا. كلا الفيلمين يدرجان اليوم في عداد تلك الأعمال التي كانت أقرب إلى الدفاع عن النفس بالنسبة للممثل. محاولة إثبات حضور في زمن ما عادت فيه السينما تصب كثيراً من الاهتمام على قاماتها الكبيرة. قبل ذلك، في العام 2007 لعب آخر دور جيد في حياته حين شارك مورغان فريمان بطولة قائمة الوعاء: كوميديا حول رجلين معمّرين يلتقيان كمريضين في المستشفى ويقرران تحقيق آخر أحلامهما. لكن آخر دور رائع له في فيلم يعود الآن إلى 11 عاماً، حين مثل في 2006 تحت إدارة المخرج مارتن سكورسيزي لآول مرّة في فيلم المغادر، الذي شاركه بطولته كل من ليوناردو ديكابريو ومات ديمون. حتى هذا الفيلم يبدو بعيداً عنا الآن لممثل ولد في زمن مختلف وعاصر مراحل متعددة من السينما. وُلد نيكلسون عام 1937 في بلدة اسمها نبتون في ولاية نيوجيرزي. عاش خضم مفاجأة كبرى سنة 1975 عندما اكتشف، وهو بعمر 38 عاماً، عبر مقالة كُتبت عنه في مجلة تايم الشهيرة بأن من اعتقدها شقيقته الكبرى (واسمها جين) لم تكن سوى والدته، وأن من اعتقدها أمه إيثل كانت في الواقع جدته. حين نُشر هذا الموضوع، كان نيكلسون نجماً عالمياً. كان بلغ هذا الوضع من مطلع السبعينات حين مثل في 3 أفلام جعلته موضع تقدير فني وجماهيري واسع، وهي 5 مقطوعات سهلة لبوب رافلسون (1970) وملك حدائق مارفن (رافلسون أيضاً، 1972) والتفصيلة الأخيرة لهال آشبي (1973). قبل ذلك، انخرط حال وصوله إلى هوليوود، في منتصف الخمسينات، في العمل التلفزيوني، فظهر في أكثر من حلقة لأكثر من مسلسل في أدوار تمر عابراً. لكنه وجد طريقه إلى الأفلام في العام 1958 حين مثل في فيلم بعنوان Cry Baby Killer لاعباً دور مراهق متهم بجريمة قتل لم يرتكبها. بعد هذا الفيلم، وضع نيكولسون قدمه في خط سير عدد من المخرجين الذين كانوا ينجزون أفلاماً جماهيرية مستقلة في الوقت ذاته أمثال رتشارد راش وروجر كورمان. الأول منحه دوراً في باكراً على الحب (1960) والثاني تبنّاه في عدد من الأفلام بدءاً من دكان الرعب الصغير The Little Shop of Horrors (1960). بعده عمل نيكولسون وكورمان معاً في الغراب، عن رواية إدغار ألان بو الشهيرة (1963) والرعب (1963). لفت نيكولسون انتباه المخرج المستقل مونتي هلمان فقدّمه في 4 أفلام متوالية هي طيران صوب الغضب (1964) والباب الخلفي للجحيم (1964) وإطلاق نار (1966) وركوب الدوّارة (1966). وعاد المخرج رتشارد راش إليه ووضعه فوق دراجة نارية كواحد من ملائكة الجحيم على دراجات ثم عاد إلى كورمان في فيلمين آخرين (أفضلهما مجزرة يوم سانت فالانتاين سنة 1967) ومثل فيلماً شبابياً آخر لحساب رتشارد راش يمكن ترجمة عنوانه إلى جنون نفسي (Psych-Out) سنة 1968. جيل الوردة تحوّل كل ذلك فجأة إلى صور من الماضي عندما دخل مجرّة هوليوود، مبرهناً على أنه أحد الممثلين الذين لديهم من الشعبية ما يكفي لاعتماده في أفلام أولى. صحيح أن المخرج الموسيقي فنسنت مينيللي وضعه في دور ثانوي في فيلم باربرا سترايسند وإيف مونتان في يوم صاف تستطيع أن ترى إلى الأبد، لكن نيكلسون لم يكترث لهذا النوع من الأفلام على أي حال. إيزي رايدر، لجانب بيتر فوندا ودنيس هوبر، كان أكثر تلبية للصورة المرسومة له في تلك الفترة، كذلك أفلامه مع بوب رافلسون ثم سواه. في ذلك الحين كانت أمريكا تشهد كل تلك المتغيّرات التي يقودها شباب يرغب في المساواة العنصرية ويعارض الحرب الفييتنامية ويؤيد السلام والوئام بين الأمم وعناصر البشر. في الخمسينات بدأت هذه الفترة بروائيين مشهود لهم بالتقدير (منهم وليام أس. بورو، وجاك كيرواك وهنتر أس. تومسون) وقبل أن تذبل نتاجاتهم انتشر مفهوم رفض المؤسسة القائمة لتشكل انقساماً كبيراً بين المحافظين وبين جيل الستينات من المثقفين والمنتمين إلى ما عرف ب جيل الوردة. السينما كانت حليفة من باب عدم رغبتها تفويت الفرصة. وأفضل ممثل كان قادراً على تجسيد الشخصية التي تماثل هوى المشاهدين في هذا الصدد هو جاك نيكلسون، وكان دوره في 5 مقطوعات سهلة من بين أفضلها مثالاً. لعب جاك نيكولسون دور شاب آت من عائلة ثرية لكنه يُدير ظهره لكل الرغد الذي كان يستطيع العيش فيه وينطلق بحثاً عن مستقبله في أعمال يدوية. هذه اللفتة المتمرّدة معبّر عنها أيضاً في التفصيلة الأخيرة حيث يمثل أحد رجلي بوليس البحرية مطلوب منه (ومن شريكه أوتيس يونغ) القبض على مجنّد (راندي كوايد) خالف التعليمات بالعودة إلى معسكره. يتفهم نيكلسون في الفيلم دوافع المجنّد الشاب ويدافع عن حقوقه مرتكباً بدوره خروجاً على الأعراف. هذان الفيلمان كانا من بين إنتاجات هوليوود الرئيسة كذلك معرفة جسدية (مايك نيكولز، 1971) وتشايناتاون (رومان بولانسكي، 1974) وسواهما قبل وبعد قيامه بتمثيل دور الكاتب الذي يستبدل هويته بقاتل في فيلم مايكلأنجو أنطونيوني المسافر (1975). هذا هو العام نفسه الذي قام فيه نيكولسون بأهم أدواره: هو مرّة أخرى رافض للمؤسسة الأمريكية التقليدية في طيران فوق عش المجانين. بعد 5 أعوام غيّر نيكولسون اتجاهه تماماً عندما قام ببطولة اللامع The Shining لستانلي كوبريك. هنا هو كاتب دكّته الأحلام والإخفاقات فانطلق يعايش وهماً من الأمس وينصاع لمن يهمس من عقله بقتل زوجته وابنه. أبرز أعماله نيكلسون استمر ممثلاً مطلوباً وغزيراً في عمله منذ ذلك الحين وحتى العام 2010 عندما ظهر في آخر فيلم له حتى الآن وهو أنا ما زلت هنا في فيلم شبه تجريبي من تحقيق كايسي أفلك. لكن إسهاماته الأهم لم تتأثر بمرور الزمن وليس علينا العودة لأكثر من 15 سنة لنلتقط بعض أداءاته الرائعة في أفلام متعددة الأهداف: الكوميديا في أفضل الممكن والعهد (لشون بن) ودوره الذي لا يُنسى في المغادر لمارتن سكورسيزي. عمد نيكولسون إلى تحقيق أفلام مثيرة جدا للاهتمام وإن لم تبلغ شأناً بعيداً. المشكلة أن تلك المحاولات كانت متباعدة جداً وجمعها نيكولسون من دون خطة للتواصل. مثلاً، فيلمه الأول كمخرج حققه سنة 1963 بعنوان الرعب. الثاني سنة 1971 وهو Drive, He Said وبعد 7 سنوات من هذا الفيلم حقق فيلمه الثالث الذهاب جنوباً، ثم انتظر حتى العام 1990 قبل إخراج فيلمه الرابع كلاهما جايك. بعض أفلامه ممثلاً دخلت في كيان السينما كلاسيكيات مهمة مثل تشايناتاون واللامع والمسافر وطيران فوق عش المجانين هذا لجانب أفلام ربما هي أقل شهرة لكنها شديدة الأهمية وجيدة مثل العهد (2001) وكل شيء عن شميد (2002). نيكولسون نوع مختلف من الممثلين. لم ينخرط في سلك المدارس بل تعامل مع الشخصيات براحة نفسية تعبّر دوماً عن مواقفه حيال الحياة وعن موهبة آسرة في الكيفية التي يصهر فيها ما تمر به شخصيته من ظروف وحالات. لا عجب أنه رشّح للأوسكار 12 مرّة أولها عن إيزي رايدر وآخرها عن كل شيء عن شميد (2002) ونال الجائزة ذاتها 3 مرّات. الأولى عن طيران فوق عش المجانين (1975) وثانيها شروط المودّة (1984) أما الثالثة فعن أفضل ما يمكن (1997).
مشاركة :