فكّرْ بمعنى اختبار حاسة اللمس! في مساحات واسعة من جسمنا، لا نكف عن التلامس (التصاق الملابس بالبشرة، تقلبات الضغط الجوي، تحرّك الشعر عند انتقال النظر من الحاسوب إلى كوب القهوة ثم من الكوب إلى الحاسوب)، لكننا لا ندرك هذه التفاصيل دوماً. لا نستطيع تحليل هذه المعلومات بكل بساطة لأن سيل الأحاسيس اللامتناهية والطفيفة التي تتدفق من جميع زوايا أجسامنا تتنافس لجذب انتباهنا. لا شك في أن اللمس المفرط سيصيبنا بالجنون! ما جديد علماء الأعصاب في هذا المجال؟ نختبر النسبة المناسبة من اللمس وندركها بعد تجاوز عتبات معينة. تنشط الحاسة باستمرار لكننا لا ندركها إلا حين تصل الأحاسيس إلى مستويات عالية بما يكفي. يبقى هذا النظام كله جزءاً من غموض مفهوم الإدراك العام أو طريقة استخلاص المعلومات وتنظيمها وتحويلها إلى رموز مهمة عن العالم استناداً إلى الفوضى الحسّية. أثبت علماء الأعصاب الآن إمكان تعديل عتبة الإدراك الحسي الآنف ذكرها لدى الفئران من خلال تغيير مستوى الحوافز التي تسمح بالكشف عن الإدراك الحسي في أدمغة الفئران. وفق دراسة نُشرت حديثاً في مجلة «ساينس»، تبيّن أن الحل يكمن في التلاعب بنشاط التشعبات، أي الامتدادات المتفرّعة من الخلايا العصبية المسؤولة عن تلقي نبضات كهربائية من خلايا عصبية أخرى. توصّل عالِم الأعصاب ماثيو لاركوم وزملاؤه من جامعة «هومبولت» في برلين إلى النتيجة الأساسية في الدراسة: التشعبات مسؤولة عن تحديد عتبة إدراك حاسة اللمس (أي نسبة اللمس التي تنتج إحساساً ملموساً). يرتكز هذا الاستنتاج على بحث نُشر في عام 2015 وذكر أن التشعبات تؤدي دوراً أساسياً في تضخيم المدخلات الحسية وقمعها بحسب حدّتها، علماً بأن اختلالها يُعتبر ميزة أساسية في انفصام الشخصية. كتب لاركوم وزملاؤه: «ثمة أدلة على الدور المحوري الذي يؤديه الارتجاع نحو المناطق الحسية الأولية خلال عمليات الإدراك الحسي، لكن يجب أن نثبت عبر التجارب أن الإدراك يتوقف على آلية التشعبات». أيونات الكالسيوم لاكتشاف ما يفعله أي نظام، يجب أن نبدأ بإطفائه ثم إضاءته مجدداً إذا أمكن. هذا ما فعله الفريق الذي يقف وراء الدراسة الراهنة عبر استهداف شوارب الفئران أو الخلايا العصبية المسؤولة عن الإدراك المرتبط بها. في البداية صوّر الباحثون طريقة عمل التشعبات استناداً إلى نشاط أيونات الكالسيوم علماً بأن وجودها ينتج القوة الكهربائية اللازمة كي تبلغ التشعبات ذروتها وتتنقّل الإشارة. عمد الباحثون إلى دغدغة شوارب الفئران وراقبوا تدفق الكالسيوم الذي يطبع هذا النشاط واستكشفوا بذلك مفهوم الإدراك. بعد تخصيص أسابيع لتدريب الفئران على القيام بنشاط معيّن (لعق الماء) رداً على دغدغة الشوارب، تمكّن لاركوم وزملاؤه من تحديد عتبات الإدراك الفردية لدى عدد من حيوانات مختلفة، ثم راحوا يرصدون نشاط الإدراك/ التشعبات بحسب حدّة الحوافز. عموماً، ارتبطت الزيادات في مستوى الكالسيوم بسلوك اللعق، بمعنى أنّ الفئران التي تجاوبت مع الحوافز سجلت زيادات في إشارات التشعبات. أخيراً، أخذ الباحثون تلك المعلومات وحاولوا زيادة مستويات الكالسيوم وتخفيضها يدوياً في تشعبات الفئران. استنتجوا ما يلي: «تثبت بياناتنا أن إشارات التشعبات «أيونات الكالسيوم» ترتبط بسلوك الحيوانات الإدراكي. يشير الوقت الفاصل بين نشاط التشعبات «الكالسيوم» وسلوك اللعق إلى وجود علاقة سببية بين الظاهرتين». سمحت زيادة مستويات الكالسيوم للفئران برصد الأحاسيس على مستويات أدنى بكثير بينما أدى الحدّ من الكالسيوم إلى أثر معاكس، فأصبحت الفئران خدرة نسبياً عند دغدغة شواربها. يمكن أن نفترض أنّ هذه النتيجة تنطبق على أدمغة البشر لكن لا بد من رصدها عملياً. نُشرت دراسة في الربيع الماضي واكتشفت أن مستويات الكالسيوم في أدمغة البشر يمكن تعديلها بطريقة غير غازية من خلال التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة، لذا يبدو أن نجاح علماء الأعصاب في اختراق اللمسة البشرية أصبح مسألة وقت!
مشاركة :