للشعر الهادف تأثير بالغ في النفوس، فهو يحقق للقارئ المتذوق المتعة الذهنية والفكرية، ولا سيما الذي يحاكي تجاربه في الحياة،فالتجارب الإنسانية تتكرر بصورة أو بأخرى في حياة الناس، وليس كل البشر لديهم القدرة والموهبة في التعبير عما يمرون به من تجارب فرح، أو ترح، أو عما يجيش بوجدانهم من مشاعر، وما يتأثرون به من لذَّة أو ألم، فتلك الموهبة حباها الله- تعالى- بعضا من عباده، وهم الشُّعراء. ولقد أقر الإسلام الهادف منه الزاخر بالقيم السامية والمثل السامقة الذي ينتصر للحق، ويدحض الباطل، ولا أدل على ذلك من إعجاب الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- بالشعر الصادق مضمونه، حيث قال: أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ وكلُ نعيم لا محالة زائلٌ. ولسنا هنا بصدد بيان موقف الإسلام من الشعر، بل ما نقصد إليه في هذا المقام هو الإبداع الشِّعْريّ، وكيف يتحقق، وبم يتفاضل الشُّعراء بعضهم على بعض. لا شكَّ أن خصوصية المعنى لها النصيب الأكبر في تحقيق ذلك كله. وخصوصية المعنى، كما يقول علماء العربية، تعني: تفصيل المعاني من قِبَل الشاعروصدورها عن تجربة ومعاناة بما يثير دهشتنا وإعجابنا،وبذلك تكون تلك المعاني خاصة به، فالشاعر لا ينقل إلينا مشاهد الحياة نقلا مباشرًا كما نراها نحن، بل ينقلها إلينا كما يراها هو من خلال وجدانه وأحاسيسه ممتزجة بنظرته الخاصة إلى ما يحيط به من ظواهر، ممتزجة بطبعه ومزاجه وقدرته العقلية وخواطره النفسية، وهنا يقول العلامة اللغوي- جاحظ العصر- الدكتور سعد مصلوح «إن اللغة ملك للثقافة، وملك للجماعة التي ينتمي اليها الشاعر، وهي وسيلة يبتذلها الاستعمال، وتستهلك طاقاتها مواقف الحياة اليومية، والشاعر يخضع هذه الملكية الجماعية إلى ملكيته الخاصة، فيأتي بالكلمة، وينفض عنها غبار الاستعمال اليومي، ويضفي عليها من الخصوصية ما يجعلها قادرة على حمل تجربته المتفردة، ثم يعيد تصديرها إلى أصحابها الذين يعرفونها حق المعرفة في ثوب جديد، فيدهشون لها، ويحسمون أنها خالفت كل َّ توقعاتهم بما حملته من سمات الجدَّة والطرافة والقدرة على التأثير وإثارة الخيال». وقد يأخذ الشاعر صورة قديمة لغيره ثم يلبسها ثوبا جديدا من خياله، ويضفي عليها من روحه وخياله وابتكاره ما يجعلها صورة جديدة ذات معنى خاص به، تماما كما يقول الأديب المتكلم عمرو بن بحر الجاحظ «:إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير». ويقول العلماء: إنَّ ثمة عوامل مؤثرة في خصوصية المعنى، منها ثقافة الشاعرالشخصية، وظروفه الخاصة، ثم الملابسات المحيطة بالنص. فمن الطبيعي أن يتأثر الشاعربما يقرأ، وأن تعلق بذاكرته بعض المعاني التي تشكل مخزونه الفكري الثقافي، فإنها تعود وتظهر في أشعاره دون قصد منه، أو كما أسلفنا القول يأخذها ويضفي عليها من فكره ووجدانه وروحه معنى جماليا جديدا، فيصبح معنى خاصا به، وهنا تكمن العملية الإبداعية في الأدب، ويدلل العلماء على ذلك بما قاله الآمدي في أخذ البحتري بعض معاني أبي تمَّام ؛ لكثرة استماع الأول لشعر الثاني منهما، وكذلك ورود بعض معاني شعر المتنبي في شعر أبي العلاء المعري. وإنني عندما أقرا بيت أسامة بن منقذ – أحد شعراء الحروب الصليبية – الذي يتحدَّث فيه على لسان السلطان نور الدين محمود مفتخرا بمآثره ومآثر من معه من جنود الجيش العربي المسلم، فيقول: نسير إلى الأعداء والطير فوقنا لها القوت من أعدائنا ولنا النصرُ أستحضر في ذهني قول عنترة في الجاهلية في ذات الغرض «الفخر»: لي النفوسُ، وللطير اللُّحوم ُ، وللو حش العظامُ، وللخيَّالة السَّلبُ فليس بعيدا أن يكون ابن منقذ الشيزريّ قد قرأ بيت ابن شدَّاد العبسي. نعم إنها ثقافة الشاعر الشخصية المخزونة في عقله، والتي تقف وراء خصوصية المعنى في الإبداع الأدبي الشعري. أما عن الظروف الشخصية للشاعر فيمثل بعض العلماء لها بأنموذج لأبي القاسم الشابي، يقول فيه في وصف المساء: أظلَّ الجود المساء الحزين وفي كفِّه معزف لا يبين وفي صدره لوعة لا تقر وفي قلبه صعقات المنون واخيرا العامل الثالث من العوامل المؤثرة في خصوصية المعنى وهو، الملابسات المحيطة بالنص. فهاك- عزيزي القارئ المتذوق- أنموذجاً للشاعر العباسيّ أبي تمَّام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، يستمد فيه معانيه من الظروف التاريخية، وذلك في قصيدته الرائعة (في فتح عمُّوريَّة). حيث خوَّف المنجمون الخليفة العباسيّ المعتصم من الإقدام على غزوها في الموعد الذي ارتآه مناسبا لغزوها، ولكن المعتصم خالف كلام المنجمين، وأقدم على ما عقد العزم عليه بغزوها في الموعد ذاته، وكان النصر حليفه، فربط أبو تمَّام بين المعاني الجزئية التي استمدها من هذه الحادثة التاريخية بمعنى إنساني عظيم، وهو أن َّ إطالة التفكير فيما لا جدوى فيه تورث التردد والضَّعْف، وأمَّا العزم والإقدام فيكشفان الزَّيف، ويظهران الحق َّ، فيقول أبو تمَّام: السَّيْفُ أصْدقُ إِنْباءً من الكُتُبِ في حدِّه الحدّ بين الجدِّ والَّلعِبِ وما زلنا، عزيزي القارئ المتذوق، مع حبيب بن اوس؛ حيث يتجلى إبداع المعاني الجديدة التي تشكل خصوصية المعنى عنده!، فالإنسان العادي كثيرا ما يرى أوراق الأشجار تتحرك ذات اليمين وذات الشمال بفعل حركة الهواء. ويمر هذا المشهد عليه مرور الكرام، دون أن يحرك خياله، أو ينبس ببنت شفه! باستثناء من رحم ربي منا، من يقول: سبحان الله! تبارك الخالق المبدع !، ولكن هذا المشهد الطبيعي الجميل لم يمر على قريحة أبي تمام كما مرَّ بنا، بل رآه بخياله الخصب، وانفعل به، ثمَّ نقله إلينا في صورة خيالية مبتكرة مبدعة ؛ حيث صور الزهرة المبلَّلة بقطرات النَّدَى التي تجري عليها وكأنها عين تنظر إليك والدموع تسيل منها ! فيقول: مِنْ كُلِّ زاهرةٍ ترقق بالندى فكأنَّها عين إليك تحدَّرُ! ثمّ يمتد خياله الخصب، فيصورها في البيت اللاحق عندما تظهر تارة، ثمَّ تختبئ تارة أخرى وراء الجميم- العشب الكبير- !، وذلك بفعل هبَّات النسيم التي تحركها، فهي تبدو حينا، وتستتر حينا حياءً وخجلاً!، فيقول: تبدو ويحجبها الجميم كأنَّها عذراء تبدو تارة وتخفر وهاكم مثالاً آخر لأمير الشعراء أحمد شوقي يبرز تأثير ظروف الشاعر الخاصة في نظرته للمشاهد، فالناس يرون الجمال في منظر السواقي المنتشرة في أراضي مصر ؛ فضلا عن أنها مصدر للخير؛ حيث تجلب المياه من باطن الأرض إلى سطحها ؛ لتجري في مجار مخصصة لجريان المياه لسقي وري الأرض الزراعية، ويلتف حولها الناس معجبين بصوتها، لكن شوقيا الأمير قادته ظروفه النفسية إلى تصويرها باكية حزينة، فرآها كالنوادب اللواتي يستأجرن في الريف ؛ للتفجع على الميت ! الشاكيات الباكيات وما عرفن صبابة ! فيقول شوقي في قصيدته في وصف الربيع: وجرت سواق كالنوادب بالقرى رعن الشَّجيّ بأنَّةٍ ونواح الشَّاكيات وما عرفْنَ صبابة الباكيات بمدمع سحَّاح والسبب في هذه النظرة يرجع إلى أن رحيل الربيع ذكَّر الشاعر برحيل أيام الشباب، فسيطر الحزن على نفسه، وانعكس على خياله وفكره، فجاء تصويره على هذا النحو، ولذلك قال عقب البيتين السابقين: إِنِّي لأَذكُر بالرَّبيع وَحُسْنه عهد الشَّباب وَطِرْفِه الممْراح هلْ كان إلَّا زهْرةً كزهوره عَجِلَ الفناءُ لها بغير جُناح وهذا يؤكد ما ذكرته في صدر المقال من أن ظروف الشاعر النفسية الخاصة لها أثر كبير في الإبداع الشعري. وبعد؛ فتلك هي خصوصية المعنى التي يتمايز ويتفاضل بها الشعراء، والعوامل التي تقف وراءها في إبداعهم الأدبي والشعري.
مشاركة :