حملتْ المحادثات البالغة الأهمية التي أجراها الرئيس اللبناني العماد ميشال عون في الرياض امس، مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وكبار المسؤولين، كل الدلائل على تكريس عودة الدور السعودي في لبنان وانتهاء مرحلة «إدارة الظهر» له، وفي الوقت نفسه معاودة بيروت تموْضعها الخارجي على قاعدة تصويب مسار الانحراف خارج الحضن العربي لمصلحة سياساتٍ أكثر توازناً على قاعدة تحييد السلطات الرسمية نفسها عن الصراعات الخارجية كما عن انخراط «حزب الله» العسكري في واحد أو أكثر من هذه الصراعات. وفيما كانت «عيون بيروت» شاخصة طوال يوم امس على المحادثات اللبنانية - السعودية وما ستخلص اليه عملياً، فإن ما رافق الزيارة من حفاوة أحيط بها الضيف اللبناني الذي يرافقه وفد من 8 وزراء والإيجابية الكبيرة التي طبعتْ المباحثات سواء في لقاء القمة بين عون والملك السعودي او الاجتماع الموسّع او اللقاءات الثنائية بين الوزراء اللبنانيين ونظرائهم السعوديين، عكستْ ان العلاقات على خطّ الرياض - بيروت طوتْ صفحة التوتّر التي سادتها على مدى نحو عام بفعل بروز سياسة خارجية للبنان خرجتْ عن التضامن العربي في ما خص الهجوم على السفارة السعودية في طهران وإدانة تدخل ايران و«حزب الله» في شؤون دول خليجية عدة، وذلك بحجّة أنّ البلاد لا تحتمل استجلاب عوامل انقسام إضافية من شأنها توتير الأجواء فيه ولا سيما في ظل الاصطفافات الحادة على خلفية الصراعات في المنطقة. وأوحى أول مؤشرات المباحثات المطوّلة التي شهدتها الرياض أمس، ولا سيما في الديوان الملَكي، بنتائج ايجابية اعتُبرت تأكيداً على ارتياح المملكة الى التسوية التي افضت الى انتخاب عون رئيساً (رغم دعمه من «حزب الله» وايران) وعودة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، الحليف الوثيق للسعودية، الى رئاسة الحكومة. وتجلّت هذه النتائج بالاتفاق على تعزيز العلاقات الثنائية و«عودتها الى ما كانت عليه» (بعد قرار المملكة في فبراير 2016 بمراجعة شاملة للعلاقات مع لبنان) وعودة السياح السعوديين والخليجيين عموماً الى لبنان، فيما يفترض ان يكون المناخ الممتاز الذي رافق الزيارة فتح الباب أمام استكمال البحث في امكانات معاودة العمل بهبة الثلاث مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني من فرنسا وهبة المليار لدعم القوى الامنية الأخرى والتي كانت المملكة علّقتها في فبراير الماضي، في حين لا يُستبعد ان يصار في الفترة القريبة المقبلة الى تعيين سفير جديد للسعودية في بيروت يُرجح ان يكون القائم بالأعمال الحالي وليد البخاري بعد ترفيعه الى رتبة سفير. وكان عون، الذي اختار الرياض لتكون أول محطة خارجية له منذ انتخابه رئيساً بهدف فتْح صفحة جديدة في العلاقات مع المملكة وسائر دول الخليج بما يتيح استعادة مظلّة الدعم الرئيسية التي تشكّلها هذه الدول للبنان، تَوجّه بعد عقده سلسلة لقاءات في قصر الضيافة الى الديوان الملكي حيث استقبله الملك سلمان رسمياً واستعرضا حرس الشرف، قبل ان يقيم خادم الحرمين الشريفين مأدبة غداء رسمية على شرف ضيفه والوفد الوزاري المرافق له. وعقب الغداء، أجرى الملك سلمان والرئيس عون محادثات موسعة شارك فيها الوزراء اللبنانيون وستة وزراء سعوديين بينهم وزير الخارجية عادل الجبير ووزير الاقتصاد والتخطيط محمد التويجري، لتُعقد بعدها خلوة ثنائية بين الملك والرئيس. وحسب المعلومات الواردة من الرياض، فإن الملك سلمان أعطى خلال الاجتماع الموسع توجيهاته الى معاونيه بلقاء أعضاء الوفد اللبناني ودرس كل الطلبات المقدمة والتجاوب معها، مؤكداً على «توثيق وتمتين العلاقات مع لبنان» والحرص على الاستقرار في الدول العربية ومنها لبنان وعلى أمنه باعتبار ان ذلك حجر الزاوية للازدهار، مشدداً على عودة السياح الخليجيين والعرب الى لبنان، «وإن شاء الله يكونون الصيف المقبل فيه»، من دون ان يتطرق الى الهبة السعودية التي يفترض تكون بُحثتْ في خلوته مع الرئيس اللبناني، وسط تقارير كشفت ان خادم الحرمين الشريفين أكد خلالها دعم لبنان بكل ما يحتاج إليه في هذه المرحلة ولا سيما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، مشدداً على «ان المملكة لا تتدخل في شؤون لبنان وتترك للبنانيين ان يقرروا شؤونهم بأنفسهم»، ومتوجّهاً الى عون «ثقتنا بفخامتكم كبيرة انكم ستقودون لبنان الى بر الامان والاستقرار». كما عُلم ان الملك سلمان أوعز الى معاونيه متابعة القضايا التي طرحها عون على الصعد الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والسياحية. وفي حين أعقب اجتماع الديوان الملكي لقاء بين عون والجبير في قصر الضيافة بحضور نظيره اللبناني جبران باسيل قبل ان يتوجّه رئيس الجمهورية للقاء الجالية اللبنانية في المملكة ويشارك في لقاء حاشد مع رجال أعمال لبنانيين وسعوديين، فإن غالبية الاجتماعات الثنائية التي عُقدت بين أعضاء الوفد المرافق لعون ونظرائهم السعوديين والتي تناولت ملفات التربية والإعلام وتفعيل الاستثمارات في ضوء الاستقرار الأمني والسياسي في لبنان وتعزيز التبادل والتجاري ودعم لبنان في استقباله النازحين السوريين خلصت الى تشكيل لجان متابعة لمواكبة الملفات المطروحة ولا سيما الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والسياحية. وقد استبق عون اللقاء مع الملك سلمان باستقباله في مقر اقامته وزير التجارة والاستثمار السعودي ماجد بن عبد الله القصبي الذي اكد «ان لبنان جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، واستقراره وأمنه هما استقرار للمنطقة، وقربه من المملكة ليس بالمسافة فقط، بل روح وحضارة وينظر السعوديون الى لبنان بنظرة خاصة، وكثير من العوائل السعودية ينشدون الراحة والترفيه المسؤول في لبنان». وأعلن وزير الثقافة والاعلام السعودي عادل الطريفي (في اعقاب اجتماعه بوزير الاعلام اللبناني ملحم رياشي) «اننا نحتفي اليوم بزيارة رئيس الجمهورية اللبنانية المهمة والتي تهدف الى تعزير العلاقات بين المملكة ولبنان وهي علاقات تاريخية بالفعل ولكن هناك حرص من القيادة في كلا البلدين على رفع العلاقات الى مستوى كبير للغاية في عدد من المجالات الاقتصادية والتنموية وغيرها من المسائل وايضاً زيادة نسبة التوافق بين لبنان والسعودية في ما يتعلق بالقضايا الاقليمية التي تهمّ البلدين. وأعتقد انه مع نهاية هذا اليوم سيكون هناك تَقدُّم ملحوظ في العلاقات». وكان عون الذي وصل الى الرياض مساء الاثنين ويغادرها اليوم في زيارة رسمية لقطر، استبق بدء محادثاته الرسمية في المملكة بإطلالة عبر محطة «الاخبارية» السعودية اكد فيها «ان العلاقات اللبنانية السعودية تأثرت بالأحداث التي جرت في الدول العربية، وحصلت بعض الشوائب غير الواضحة بالنسبة الى البلدين وانا اليوم هنا لأبدد الالتباسات التي حصلت حاملاً المودة والصداقة للشعب السعودي». وقال رداً على سؤال: «استطعنا ان نحافظ على الامن والاستقرار ضمن الحدود اللبنانية وذلك نظراً الى ما يمكن ان تحدثه الحروب الدائرة حالياً في المنطقة ولدينا تجربة في السبعينات وتعلّمنا ونود ان يتعلّم الجميع ان مثل هذه الحروب الداخلية لا تنتهي الا بحل سياسي. نحن مررنا في تجربة مماثلة ووصلنا الى اتفاق الطائف في المملكة ونتمنى للآخرين ان يعتمدوا الحل السياسي». واعلن «اننا جميعاً بحاجة الى التعاون لمحاربة الارهاب، ولبنان ليس جزيرة بعيدة عن هذه المشكلة وبالتالي لسنا وحدنا، ونحن في حاجة الى التعاون مع المملكة العربية السعودية وكل الدول لان الارهاب لم يعد محصوراً في دول الشرق الاوسط بل عمّ العالم اجمع»، وموضحاً انه «خلال الزيارة، سنعرض كل المواضيع الممكنة ومنها امكان تقديم المساعدة للجيش اللبناني». وخلص رداً على سؤال الى ان «لا حاجة على مستوى لبنان الى قيام (طائف جديد)لان لدينا القدرة على ان نجري تعديلات معينة اذا رأينا وجود حاجة اليها». وأمل عون أن يتم حل الأزمة في سورية سياسياً وسلمياً «لأن ذلك يسمح للنازحين بالعودة إلى سورية وإعادة إعمارها، فالمشكلة تخطت المعقول والدمار الذي لحق بهذا البلد كبير جداً».
مشاركة :