عرض التلفزيون السويدي الفيلم الوثائقي «جون بيرجر: فن الرؤية» للمخرجة الألمانية كورديليا دفوراك قبل نحو شهر، لمناسبة بلوغ الناقد الفني والأدبي والروائي الإنكليزي جون بيرجر عامه التسعين، وسيعاد عرضه نهاية الشهر الجاري وفاءً لذكرى المخرج الذي رحل عن عالمنا مطلع العام الجديد. ينطلق الفيلم من التقاطة فنية مدهشة تُحسب للمخرجة دفوراك، بحيث تبدأ من فكرة إجراء عملية (الساد) الناضج في عيني الناقد الكبير، وهي تعني سحب المياه البيضاء منها، حتى يستعيد نظره في شكل جيد. ولأن ناقداً كبيراً ومصوراً ورساماً لا يمكنه العمل بحرية من دون عينيه، فإن أقل ما يقال عن هذا «الساد» أنه كان في مثابة شرارة إلهام ساهمت في تصوير فيلم وثائقي من هذه الزاوية. وهذه العملية نفسها دفعت بالناقد بيرجر الى تأليف كتاب مشترك عنه مع صديقه رسام الكاريكاتور التركي سيلتشوك ديميريل، وفيه إطلالة فريدة على عالم بيرجر الفوتوغرافي الحافل بالصور والرسوم. تعبر عشر شخصيات تباعاً من أمام عدسة كورديليا دفوراك: أصدقاء متمكنون من «مقايضة» تجربة الناقد والروائي والرسام بـ «اقتصاد الموت» الذي يحبو في بعض النصوص الأدبية التي يقرأها أمام الكاميرا، وهي تستطلع تلك الإمكانات المدهشة التي سمحت لجون بيرجر بأن يخلع نجومية الأروقة الإعلامية وصخبها، ويعيش زاهداً في جبال الألب الفرنسية، في بيت جبلي صغير منعزل يحاكي فيه حياة المزارعين وينحاز الى بساطتها، ويقود دراجته النارية في الوديان وهو مرتاح الضمير. ويكاد «يُفشل عبثية العالم»، أو يتلاشى في أفعال الكتابة وهو يغرق في رسم وردة فيما تترك المخرجة لصوته من خارج الكادر أن يقرأ نصاً شعرياً مترافقاً معها. تشكّل حواراته مع ابنته كاتيا، وهي ناقدة سينمائية معروفة، عن كورفاجيو ورمبراندت خيطاً «رؤيوياً» متمرداً ومختلفاً عن حضور الآخرين في الفيلم، مثل المخرج المسرحي البريطاني سايمون ماكبرني، والمــصور السويسري جان موهر، والناشــر الألماني هانز يورغن بالمز، والمخرج السينمائي مايكل ديب، وبالطبع ابنه الرسام إيف. لا يمكن فصل حضور جون بيرجر عن عطاءاته المتنوعة في الأدب والسياسة والفن وعن تكثيف تلك اللحظات في تصوير الكون، سواء في لوحة أو في امتداد طبيعي لنص غارق في لغة خاصة به. ويكشف إيمان بيرجر بالرسم كمنطلق في إعادة توظيف فن الرؤية عن تلك الرغبة الغامضة في الاشتغال على مفردات الطبيعة وجوهرها الحيّ، لهذا قد لا يختلف اثنان على تلك الالتقاطة المدهشة التي ميزت عمل المخرجة دفوراك، حتى في استضافتها شخصيات تتصل في شكل أو في آخر بهذا الفن، ولا تنفصل عنه إلا في حدود إدراك الآليات التي ينطلق منها الى عالمه الرحب. لم تسع المخرجة في فيلمها (55 دقيقة) الى كل كتابات جون بيرجر عن المنفى واللاجئين واختفاء الفلاحين وتنقلات البشر بين المدن كمهاجرين ونقده الفن الماركسي، لكونها موجودة في أفلام كثيرة أعدتها «بي بي سي» عبر سنوات عن محطات مختلفة في حياته المديدة والمميزة بثراء كبير، حتى أن كورديليا دفوراك تلجأ في مقاطع مصورة كثيرة منها لتوضيح فكرتها عن فن الرؤية عند جون بيرجر، بخاصة تلك العلاقة الكارثية التي قد تنشأ بين الفن والممتلكات في حالة الانتقال السلمي أو الإجباري من مكان الى مكان. ليس انقطاعه عن مسقط رأسه الإنكليزي وعيشه بعيداً منه في جبال الألب الفرنسية نحو أربعة عقود إلا لوحة كبيرة تبدو «نخبوية» في أرض تتّسع مقارنةً بكل الصور التي يفردها أمامنا، والإنسان ليس أمامه سوى التورط في النظر إليها.
مشاركة :