يسجل المهتمون بالتنمية البشرية أن من الأسباب الرئيسة المؤدية إلى ضعف وقلة المنجز التنموي في المجتمعات النامية، الإهمال والتفريط في الاستفادة من «تراكم» المعرفة، أي أن هذه المجتمعات لا تضع محصول خبراتها في «رأسمالها العامل» وتستهين بالتجارب المتوافرة في هيئاتها ومنظماتها وأجهزتها التنفيذية، فتكرر الأخطاء التي مرت بها أو مرت بها مجتمعات مماثلة. وما يرصده المختصون عن المجتمعات، بصفة عامة، يمكن ملاحظته، بشكل أوضح، على ثقافة المؤسسات والمنظمات والهيئات وأجهزة التخطيط والتنفيذ في دول العالم الإسلامي، إذ نجد المؤسسات وأجهزة التنفيذ تفرط وتتهاون في العمل على «توثيق» خبرات العاملين فيها الذين يقضون عشرات السنين وقد اكتسبوا، بالتدريب والتعلم والاطلاع على برامج المنشآت الناجحة، خبرات ومهارات، لا تتأتى للإنسان في وقت قصير، وهي حصيلة من المعرفة تختصر الكثير من الجهد والعمل. هؤلاء «الخبراء» الثروة تنقضي علاقتهم بمنظماتهم ومؤسساتهم بعد بلوغ سن التقاعد فيخرجون، بكل مخزونهم من المعرفة وتجاربهم من دون أن تستخلص لتكون أرباحاً حقيقية «لاستثمارات» تلك المؤسسات والهيئات بعد أن أنفقت على تلك العقول المال والوقت. ويبرز السؤال: لماذا تهدر الهيئات «ثروة المعرفة» المتراكمة لدى منسوبيها؟ ولماذا لم تلتفت إلى أهمية إيجاد آليات ترصد تلك التجارب وتنقلها إلى الأجيال المتلاحقة حتى لا تضطر إلى تكرار ما سبق أن وقع فيه من قبلهم؟ لماذا يعمد «الخلف» إلى التقليل من منجزات «السلف» والاستهانة بما فيها من خلاصات وتجارب، ويتعقد أن ما فيها من رؤى وآليات لا يصلح للبناء عليه في الحاضر والمستقبل. هذه الأسئلة وموحياتها وما يصاحبها من رؤى وأفكار وخواطر، تثيرها ظاهرة «تكرار الأخطاء» في خطط وبرامج هيئات ومؤسسات المجتمعات النامية، ويلفت النظر إليها ظاهرة التفريط في الاستفادة من تجارب أصحاب الخبرة «المتقاعدين» فتراهم يغادرون مؤسساتهم ومنظماتهم من دون أن «يدونوا» خلاصات تجاربهم ويوثقوا ما يوفر على الأجيال التالية الكثير من الوقت والجهد والمال، يخرج هؤلاء «الخبراء» وتنقطع صلاتهم بالمنشآت التي قضوا فيها السنين واكتسبوا من ثمرات المعرفة والتجربة ما يعد ثروة حقيقية، فتتلقف المميزين منهم المنظمات الأممية في المجتمعات المتقدمة وتستفيد من مهاراتهم وعلمهم من دون أن تكون أنفقت على تحصيلها ريالاً واحداً. وهذه دعوة للتوقف والعمل على معالجة هذا الخطأ وإيقاف هذا «الهدر» غير المبرر، فالمعلومات إذا لم تترجم إلى «مهارات»، مكتسبة بالخبرة، لا تصل إلى درجة «المعرفة»، وتتعدد وسائل وطرق نقل الخبرات إلى الأجيال التالية، ومنها الكتابة أو التسجيل والتوثيق، بالطرق التقليدية، لكن هذا النوع من النقل لا تتسع آثاره ويتعمق تأثيره، إذ لا يستفيد منه، عادة، إلا الذين يحبون القراءة والبحث والتنقيب ولديهم شغف ودأب على تتبع مصادر المعرفة والبحث عن الأسباب الكامنة وراء قصص النجاح وتحقيق الأهداف. وقد يستفيد من آليات الكتابة والتسجيل، وهي ضرورية في كل الأحوال، الباحثون أو من يريد أن يدرس تاريخ الإنجاز في منظمة أو هيئة، كما هو مشاهد في أبحاث طلاب الدراسات العليا في المعاهد والجامعات، لكن هناك آليات أخرى أسرع تأثيراً وأوسع انتشاراً من أسلوب الكتابة، ومن تلك الآليات «التلقي المباشر» من صاحب الخبرة والتجربة من خلال التدريب وورش العمل القريبة من ميدان العمل أو حقل التجربة وحلقات النقاش فهذا النوع من «التواصل» فيه من الحيوية والتفاعل ما لا تتمكن منه آليات الكتابة أو التوثيق المصور على رغم أهميته، لأن الكثير من تلك «الوثائق» تقبع في المكتبات والرفوف من دون أن تتحول إلى طاقة دافعة إلى العمل، ولهذا فإن العناية بأصحاب التجارب الثرية والتميز المعرفي، ضرورة للمنشآت والهيئات، ومن مصلحتها أن تصمم برامج وخطط للاستفادة منهم، في السنوات الأخيرة من حياتهم العملية قبل الرحيل، وتوفير آليات فاعلة تسهل نقل تجاربهم إلى سلفهم بحيوية وتفاعل يبقي شعلة الحياة متقدة، وقد يكون من المناسب أن تصمم المؤسسات برامج خاصة، بحيث تقلل الأعباء التنفيذية على أصحاب التجارب والخبرة المميزين المقبلين على التقاعد وتوجه نشاطهم إلى ما يمكن أن يسمى «حقل نقل التجارب» وتختار من يدخل هذا الحقل من قادة المستقبل للاحتكاك المباشر في حوارات ونقاشات حية تفحص المعارف وتطرح الأسئلة الجوهرية وتناقش الطروحات وتمحص صلاحياتها للمستقبل لتنتهي إلى «خلاصات» مطمئة يصطحبها قادة المستقبل. ومن المؤكد أن آليات وصيغ نقل التجارب والخبرات متعددة، وتختلف من بيئة لأخرى، كما تتباين برامج وخطط المنظمات والهيئات في تنفيذها، بحسب طبيعة عملها ومسار دورة نقل المهام من جيل إلى جيل، لكن القاسم المشترك بين كل المعنيين بالتنمية البشرية هو التوافق على أن إهمال الاستفادة من أصحاب الخبرة والتفريط في توثيق معارفهم ومهاراتهم يعد «هدراً» لمكاسب متراكمة أنفقت عليها المجتمعات من ثرواتها الوطنية الشيء الكثير، ومن المنطقي ألا تعنى بتلك المكتسبات وتعمل على تجميعها وتعظيم أثرها في مسيرة تنميتها. وكم وددت أن أرى في مؤسساتنا الوطنية وهيئاتنا الإقليمية برامج حقيقية تعمل على الاستفادة من أصحاب التجارب، تجمعها وتبوبها وتطرحها لتكون زاداً معرفياً يصب في وعاء العناية بتطوير قدرات ومهارات الأجيال الصاعدة، وليست هذه دعوة أن يبقى أصحاب الخبرة والتجارب في مواقعهم «يضيقون ممرات» الصعود إلى القمة في أجهزة التخطيط والتنفيذ، بل الهدف هو أن «يمهد» أصحاب الخبرة الطريق للصاعدين من كل جيل ويزودونهم بما يقلل الهدر يوفر الوقت والجهد. أتمنى أن أرى في مكتباتنا وجامعاتنا ومراكز أبحاثنا توثيقاً حياً لتجارب المميزين من كل جيل، حتى تتراكم الخبرات وتتلاقح العقول وتتواشج التجارب لتشكل سلسلة مترابطة من المعرفة والمهارة.
مشاركة :