يتبدَّى لنا متحف الفنون الحديثة في ميونيخ بشكله ما بعد الحداثي الغريب الذي يؤلف بين نقيضين: الكتل الإسمنتية الصماء، والمساحات الزجاجية الفسيحة، وربما يلوح للناظر أن مفارقة عجيبة تنطوي على هذا المبنى، وهي أن متحف الفنون يفتقر إلى الفن في أساس تصميمه، إلا أن مكمن الغلط في هذه المفارقة أنه ليس متحفاً للفنون الجميلة، وإنما للفنون الحديثة، وشتان ما بينهما؛ لأن الفن "الحديث" لا يتعاطى مع الجمال فقط، وإنما مع القبح أيضاً. تقول لورا توشيفا معلّقة على المتحف في موقع جوجل للخرائط: "أنا لا أفهم الفن الحديث، لقد رأيت قطة ميتة، كراسي، كثيراً من الكراسي، رأيت غرفة بها مجسم ضخم على هيئة فطر مغطى بالأشرطة اللاصقة، وأوراق الصحف، كان هناك كثير من الأشرطة اللاصقة في أنحاء الغرفة، لكأنهم بذلوا قصارى جهدهم ليبدو المكان غير جميل، أعرف أن هناك معنى وراء ذلك كله، ولكن كل الذي شعرت به بعد زيارتي هو الحزن، معظم الأشياء كانت سوداوية تعبر عن نوع ما من الكآبة، إن كرهت شخصاً ما فسآتي به قطعاً إلى هذا المكان". لم أخطئ في داخل المتحف بعض النظرات الحيرى من حال تلك اللوحات، كنت أرى بعضهم يمضون من صالة عرض إلى أخرى، وعلى وجوههم علامات الاستفهام والتعجب، ليس فقط لأنهم عجزوا عن فهم هذه اللوحات، وإنما عجزوا أيضاً عن سر التقدير العظيم والاحتفاء الضخم بها، فالبداهة تفرض أنه لو لم تكن ذات قيمة، لما وُضعت في هذا المبنى الذي كلف الملايين من اليورو، لكن أين القيمة فيها؟ والجواب أن قيمتها هي مقدرتها على التعبير عن مرحلة ما بعد الحداثة. إن مسألة ما بعد الحداثة لا تقتصر على اللوحات الفنية فقط، بل إنها ظاهرة عامة في أغلب نواحي الحياة: فهي وراء القصائد المبهمة، وأفلام القتلة المتسلسلين، والمباني المسطحة، والأغاني السخيفة، وزواج المثليين، والوشوم والأقراط، والقصات الغربية، والعبادات العلمانية (كعبة الشيطان والفضائيين..)، والاستعمار الجديد neocolonialism (كاستعمار شركة نستلة - على سبيل المثال - ساحل العاج)، وهي وراء تسليع الفن، والرياضة، والدين، والثقافة، والمتاجرة بها، وصناعة الجنس واللذة والحركات النسوية وغير ذلك.. هذا من حيث تجلياتها في الواقع، وأما من حيث الإطار النظري فهي فلسفة (هذا على سبيل المجاز وإلا فهي معادية للفلسفات كلها) قد كفرت بالمطلقات كلها، وهي متصلة اتصالاً وثيقاً بعصر الاستنارة والتحديث والحداثة، وملتصقة بالنظام الرأسمالي العالمي وتكاد تقتصر على الغرب لولا ما حدث من عولمة التجربة الغربية وتعميمها على كافة الشعوب. وقد صدق فريدريك جيمسون حين وصف ما بعد الحداثة بأنها المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة؛ لأنها المرحلة التي لم يسلم فيها شيء من حمى التسليع، كما صدق عبد الوهاب المسيري حين وصفها بالعلمانية الشاملة؛ لأنها امتداد لعملية علمنة الحياة بشقيها العام والخاص وفصلهما عن القيم كلها، لن أتحدث عنها في هذه العجالة بتوسع واستقصاء لتاريخها ومقدماتها المعرفية، وإنما سأدوّن بإيجاز ملاحظات بسيطة على اللوحات التي شاهدتها في المتحف متأسياً بمذهب النبي عليه السلام، في أن خير الكلام ما قلَّ ودلَّ وراجياً أن تكون هذه الملاحظات مفاتيح لفهم هذه الظاهرة التي توخينا وصفها وصفاً مجرداً عن النقد -وإن كنا ننتقدها في الحقيقة بشدة- كيما تتضح بعض ملامحها الخافية للقارئ من دون أن يتوه في تشعبات النقد الكثيرة. تطالعنا أول اللوحات التي سنتناولها بالتعليق في قاعة بيضاء فسيحة، نرى فيها شكلاً بيضاوياً كأنه نافذة أو مرآة واسعة تعكس سواد ليل غير معتم، وتبدو في أنحائه الرمادية شجرة سوداء غير مورقة. إن هذه المرآة تمثل انعكاس الوجود على النفس الإنسانية التي لم تعد قادرة على استشعار الروعة الكونية للوجود، فلا سماوات فسيحة، ولا نجوم تتلألأ، ولا قمر يضيء، إنما فضاء لا نهائي باهت اللون؛ فكأن النفس الإنسانية قد انفصلت عن الكون وعن كل فكرة كبرى تحدد مكانها منه، وانغلقت على ذاتها المدمرة. أما اللوحة الثانية، فإننا نجد فيها نافذة لا تكاد تطل على شيء؛ لأن بقعة بيضاء تحول دون الرؤية، ونفهم من ذلك أن الذات المدركة مشوشة الوعي تشويشاً لا تستطيع معه أن ترى ما وراء النافذة/الطبيعة أو حتى ما وراء ذاتها من عالم خارجي، وأما اللوحة الثالثة فإننا نجد فيها وجهاً أعور ممزقاً قد تداخلت أجزاء وجهه المشوه بعضها في بعض. فإن كانت الصورة الثانية قد تفكك فيها الموضوع/ العالم الخارجي، فإن الصورة الثالثة قد تفككت فيها الذات المدركة؛ إذ لم تعد قادرة على معرفة معالم شكلها إلا على نحو مشوه جداً، وهنا نستعيد بعض مقولات ما بعد الحداثة كمقولة تشظي الإدراك De-realization، أي تحول الواقع إلى وهم يستعصي على الفهم، ومقولة موت المركز/الذات المدركة Death of subject، أي فقدانها استقلالها الوجودي كذات مدركة لذاتها وللواقع، وهذه مصطلحات رئيسية في أدبيات ما بعد الحداثة. ثم نجد صورة ذات دلالة صريحة ومهمة: ملابس ذات طابع شبه شعبي وعليها تاريخ 1903، ونرى فيها جزء الوجه قد بُتر بتراً كاملاً وحل مكانه سواد معتم، هي مهمة؛ لأنها لا تشير فقط إلى الطابع التدميري للرأسمالية ومحوها الثقافات الشعبية، وإنما تشير أيضاً إلى نهاية تفرد الذوات الإنسانية أمام الاجتياح الهائل للهجوم الرأسمالي، وتحولها إلى نسخ مكررة لا تتميز إحداها من الآخر بشيء. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تخبرنا الصورة الثانية أن المسافة الفاصلة بين الذات/ الإنسان الموضوع/ الأشياء قد تلاشت، فالوجه هو الكوب والكوب هو الوجه؛ إذ حدث "تشيّؤ" حاد (من كلمة شيء وهي مستعملة في الأدبيات الماركسية بمعنى مختلف قليلاً) "Reification" فتلاشَت تماماً المسافة الفاصلة بينهما واختلطت الذات بالموضوع. ثم نجد في إحدى القاعات تمثالاً على هيئة إنسان، غير أنه يختلف عن التماثيل الرائعة لعصر النهضة الأوروبية والحداثة، فإذا كان الفن أبدع في الماضي تماثيل متسقة تعكس رؤية الإنسان لجمال الأشياء والكون، فلا عجب إذاً أن ينتج الفن اليوم تماثيل متشظية تشبه تشظي وعيه في مرحلة ما بعد الحداثة، ولا عجب أيضاً حين نجد التمثال في تلك القاعة قد تناثر في أرجائها على هيئة مِزَق لأعضاء بشرية، فاليد في ناحية والرأس في ناحية والقدمان في ناحية، ذلك يعيدنا مرة أخرى إلى مقولة التشظي واختلال الإدراك الذاتي والموضوعي في أدبيات ما بعد الحداثة. نخرج من ذلك كله إلى قسم آخر من المتحف، وننتقل من الإبداع الحر إلى الإبداع ذي الغرض المادي الواضح، فلا غموض يلفه، ولا ألوان قاتمة، ولا تمزق، بل كل شيء مفهوم ومبهج ومتسق. تطالعنا في مدخل هذا القسم أعظم مخترعات البشرية على مر العصور معروضة أمامنا بتباهٍ وخيلاء على رفوف ضخمة وُضعت فيها سيارات وأجهزة كهربائية وحواسيب، ثم ندخل إلى القسم فنرى كل ما أنتجته العبقرية الإنسانية من مخترعات عصرية معروضاً أمامنا في أنحاء ذلك القسم، وحينئذ لا يملك الإنسان إلا أن يسأل نفسه: لماذا الوضوح هنا والغموض هناك؟ لماذا الجمال هنا والقبح هناك؟ إذا نحن أمعنا النظر في القسمين وجدناهما يكملان معاً صورة واحدة، فالإبداع ذو الغرض المادي المفهوم يقابله في الجهة الأخرى الفن ما بعد الحداثي الممتلئ بمعاني الضياع والسوداوية، ولكن ما هي الصورة الكاملة؟ إن الإنسان في العصر الحديث قد "تخلص" على وجه العموم -ويا للأسف- من الإيمان" بالأفكار الكبرى" أو كما يقول ليوتار مفكر ما بعد الحداثة إنه تخلص من الروايات الكبرى "grand narratives"، أي الإيمان بالمطلقات كلها سواء كان ديناً أو فكرة عامة كالعدل والخير أو العقل أو الليبرالية أو الشيوعية، واستبدل بها الروايات الصغرى "local narratives" وهي أفكار نسبية وبسيطة وضرورية لتسيير الحياة اليومية. وفي الوقت نفسه الذي تبددت فيه المطلقات كلها، بقيت مطلقات مادية فرضتها مرحلة الرأسمالية المتأخرة، هي مطلقات الإنتاج والمنافسة ومعدلات الربحية.. فحين ينتج الإنسان ما بعد الحداثي بضراوة وينافس بقوة ويعمل ثلث يومه مكافحاً كفاحاً يستنفد جل طاقته ليصل إلى أعلى معدلات الربحية (في أحيان كثيرة ليس له في الربح لا ناقة ولا جمل)، فإننا نجده يعبر في فنونه عن وهم المطلقات المادية وزيفها، وعن حالة الضياع، وتفكك ذاته الإنسانية واختزال أبعادها المتعددة إلى بُعد مادي واحد، ونشاطاتها المتنوعة إلى نشاط اقتصادي محض، بيد أن إبداعه الفني لا يثور على الوضع القائم كما كان يثور الفن في مرحلة الحداثة، بل يؤكده. يذكرنا نموذج الإنسان ما بعد الحداثي الذي تسربت من بين أصابعه مطلقاته كلها، وراح ينافس بلا هوادة في عالم الاقتصاد الذي أصبح مطلقاً في حد ذاته، يذكرنا بالإنسان السوبرمان الذي بشر به فريدريك نيتشة، ذلك الإنسان الذي تحرر من القيم ومن فكرة الخير والشر والعدل، ومن "الهراء" الذي يُسمى الأخلاق، ومن المطلقات كلها، وآمن بشيء واحد: وهو عبثية الوجود Nihilism (نيهيلزم)، واعتقد بمطلق واحد: وهو القوة. إنه يقاتل منافسيه بكل ضراوة، ولا يسأل نفسه لماذا يقاتلهم؟ ولكنه يعرف شيئاً واحداً فقط: أنه يجب أن يبقى منتجاً قوياً ويظل يقاتل. ولأن الفنانين هم الذين يعبرون بصدق عن الضمير الإنساني، فلن يسعهم إلا أن يعكسوا الجزء الشائه من الصورة البراقة، ويسفروا لنا عن حقيقة تلك المرحلة: مرحلة ما بعد الحداثة، فإن كان في فنهم من قيمة فهو ذاك وليس غيره. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :