الزمان: الثامن من مايو 2014، المكان: مركز طما بمحافظة سوهاج، الحدث: وفاة «الست» عن عمر يناهز مائة واثنين عام، الآلاف فى الشوارع، رجال ونساء وأطفال يبكون حزناً، ينتظرون خارج سور مدرسة «بيت إيل»، رافعين لافتات الرثاء، فى انتظار إلقاء نظرة الوداع الأخيرة، على من تركت حياة الرفاهية فى موطنها هولندا، لتعيش بين أطفال طما ما يقرب من 77 عاماً. هيلين فيرهوفة، امرأة هولندية، من العائلة المالكة، تربت على فعل الخير ومساعدة الآخرين، وبمجرد معرفتها باحتياج مصر فى الثلاثينيات من القرن الماضى، إلى من يساعد فى تعليم أهالى الصعيد، وهى فى السابعة عشرة من عمرها، قررت على الفور أن تكون خدمتها فى مصر. وبعد مناقشات مع والدها وتأجيلات ورغبة وقلق، دبت فيرهوفة قدميها مدينة الإسكندرية، وهى 25 عاماً، لتسطر هيلين قصة كفاح وحب قضتها فى مركز طما، لنشر تعليم الفتيات فى الصعيد. ذكريات لا تُمحى من عقول من عاشوا وتعاملوا مع هيلين، ومازالوا محافظين على تخليد ذكراها، بعد أكثر من عامين من الفراق، يحكى الذكريات الكثير منهم، داخل فناء المدرسة، التى بنتها هيلين لتبقى شاهدة على أعمال «الست الهولندية» كما يطلقون عليها فى سوهاج. يقف فى شرفة مكتبه، فى الثامنة صباحاً، يشاهد طابور الصباح، بمدرسة «بيت إيل»- أى بيت الرب- كما سمتها هيلين منذ بنائها فى عام 1951 إلى أن تغيرت إلى مدرسة النور، تلك هى العادة التى أخذها فايز فخرى، مدير المدرسة، من هيلين كأول ما يفعله فى الصباح، وما إن ينهى مراقبته واطمئنانه على الأطفال، حتى يأخذك فى جولة بين جنبات المدرسة، التى شهدت على ولائه وإخلاصه للست منذ ثلاثين عاماً. قررت هيلين منذ قدومها إلى الصعيد أن تعلم الفتيات، فبنت مدرسة صغيرة فى البداية، ثم تطور معها الأمر، بعد أن اعتاد عليها أهالى طما، ودعموها مادياً ومعنوياً لتبنى هذه المدرسة التى كانت محل عملها وإقامتها فى نفس الوقت، يقول فايز: «كان المبنى الأولانى قديماً ومتهالكاً فقررت تبنى مكاناً أوسع». فناء واسع يقضى فيه الأطفال أوقات «الفسحة»، وفى الخلفية أغانٍ وطنية مصرية، اعتاد القائمون على المدرسة تشغيلها للأطفال بناء على تعليمات هيلين، ومجموعة من المدرسات بزى موحد: «خلت لكل المدرسات نفس الزى عشان محدش يسابق التانى فى اللبس ويقول مين أحلى، كانت ست بسيطة». شابة جميلة تسعى لتعلم اللغة العربية، وتأبى تحدث أى لغة عداها وهى بمصر، يتقدم لها الكثيرون، وتصر على شرط واحد، «هترضى تعيش معايا هنا فى طما؟ لو لا يبقى خلاص، أنا عايشة لأهل طما وأطفالها». هذه ملامح الشخصية التى تحاول فايزة، 65 عاماَ، أن تصف لنا هيلين بها، فايزة التى عاشت بجانب «الست» ما يقارب من 55 عاماَ: «اتبنتنى من وأنا عندى 10 سنين، عشان كانوا عايزين يجوزونى وأنا رفضت، ومخرجتش من المبنى ده من ساعتها». لم يخطر ببال فايزة أن تعيش حياتها، تأكل وتشرب وتنام، فى مكان رفضته من البداية، ففايزة لم تحب التعليم وتركت المدرسة منذ الصغر، ولكن ترتيبات القدر وضعتها فى أحضان هيلين، فأصرت ألا تفارقها. باب خلفى صغير، يفصل بين الطلاب والكتب والمدرسين والدروس، وبين جناح صُمم على ذوق هيلين، لتعيش فيه، غرفة نوم ومعيشة، تستقبل فيه ضيوفها، واعتادت كل صباح أن تستيقظ على صوت الأطفال وهم يهرولون قدوماً إلى أبواب المدرسة. تُنهى يوم الدراسة، وتطمئن أن العملية التعليمية تسير على خطى صحيحة، لتختلس بعض الأوقات فى جناحها وتبدأ فى الكتابة، طيلة 77 عاماَ، تراسل أهلها وأصدقائها فى هولندا، شخص وحيد هو الذى كان يسمح لنفسه بمقاطعة هذه الخلوة: «بعد ما كبرت شوية فى السن، كان بتطلب منى أكتبلها وأقرأ لها الجوابات اللى بتيجى ليها وبتكون باللغة الإنجليزية» يقولها باسم فلى متى، 43 عاماً، طالب المدرسة، والذى قدر رسالة ودور هيلين فى مصر، فظل على علاقة طيبة معها، إلى أن أنهى دراسته الجامعية، وجاء ليعمل مدرس لغة إنجليزية. الأطفال الذين شَب الكثير منهم الآن، ومازالوا يتذكروا «بيت إيل»، ومنهم اللواء نور عبدالرزاق، عضو مجلس الشعب الحالى، وأحد طلاب المدرسة، الذى يواظب على زيارة المبنى كل فترة، ووضع صورة للست، تُضاف إلى مجموعة الصور التى ملأت أرجاء المدرسة، والتى قُدمت من كل أهالى طما، سواء احتفالاً بها فى عيدها المئوى، أو حتى بعد وفاتها وهى فى سن المائة والاثنين عام، يقول: «أنا فاكر فى سنة 1967، كان فيه مخطط لإخراج هيلين من البلد، وقتها طما كانت أشبه بمظاهرة ورفضت مغادرتها». لم ينس أى من أهالى طما «الست» التى قدمت المساعدات فى أكثر من مجال ليس فقط للتعليم، يعترفون بجميلها، ولا يملون من الذهاب لزيارتها فى مدفنها، الذى أوصت أن يكون داخل تراب طما، يقول فايز: «أخدت فترة على ما تعرف تطلع تصريح إنها تدٌفن هنا، وراحت بالسلامة وهى 102 سنة، بس هتفضل روحها وفضلها فى قلب كل فرد فى طما». حكاية 77 سنة عاشتها الست الهولندية لتعليم فتيات الصعيد تقرير: سحر عربي
مشاركة :