بعد الانتهاء من مشاهدة المسلسل المصري «سقوط حر» للفنانة نيللي كريم، تذكرت حديث الأديبة الإنجليزية والناقدة «فرجينيا وولف» بشأن «العقدة» في الأعمال السردية. تقول: ليس على الكاتب أن يزعج نفسه باختلاق «العقدة» الفنية. فالبراعة الفنية ليست في أن يصف حدثاً واضحاً ومألوفاً مثل: شجار نشب بين شخصين في الشارع، أو معركة حرب، أو مغامرة حب، مما يمكن أن يتخذ أساساً لعقدة ينهض عليها العمل القصصي، لكن البراعة هي أن يصور الكاتب اللاشيء، الفراغ الذي تتكون منه حياتنا، ساعات العمل الرتيبة، فهو في هذه الحالة سيصف ما لا يوصف، ويرى ما لا يُرى، ذلك أن إدراك الأحجام الكبيرة سهل للغاية، يمكن أن يلاحظه كل الناس، لكن الإحاطة بالذرات المتناهية الصغر تحتاج إلى عيون خبير. مسلسل «سقوط حر» يروي قصة امرأة تعاني اكتئاباً مترسباً في الأعماق، وشعوراً بالاضطهاد منذ كانت طفلة، ومللاً بغيضاً يثير اشمئزازها، من معاشرتها رجلاً لا تعرف حقيقة مشاعرها تجاهه، فرّت من سيطرة أمها إليه بمجرد أن تقدم للزواج بها. تُتهم المرأة بقتل زوجها وأختها، حيث تجدها الشرطة مع أداة الجريمة، مسدس، في غرفة النوم بصحبة الضحيتين، تنتابها حالة صدمة شديدة تصيبها بالخرس الكامل لكل انفعالاتها، وفقداناً جزئياً لذاكرتها. وبعد تحويلها، بقرار من المحكمة، إلى مستشفى الصحة النفسية، والبدء في جلسات العلاج، تتطور حلقات المسلسل لتبرهن لنا أن المرضى النفسيين ليسوا هم، فقط، من يقبع المصحات، أو يرتاد العيادات، إنما هم هنا وهناك، في كل مكان، بجوارنا في البيت والعمل والأهل والأصدقاء... الفرق؛ أن هؤلاء لم يوقعهم القدر في ظروف تضطرهم إلى دخول المصحة والاعتراف بمرضهم رسمياً كما وقع للضحية ... المسلسل فوق أنه يقدم، ببراعة فنية عالية، متعة ذهنية وتشويقاً في المتابعة ورغبة جامحة في فك الإلغاز الذي يحوم حول الأحداث، يضيف إليك، كذلك، وثيقة معرفية عن أشهر الأمراض النفسية التي تنتاب الناس نتيجة ضغوط الحياة، والصدمات، ومخاوف المستقبل، وعنف الطفولة. يناقشها بأسلوب سلس، ويحلل أسبابها، وما يمكن أن تؤول إليه. الأهم، ونقطة التفوق في العمل، إنه لا يعنيه مطلقاً البحث عن الجاني، وإلاَّ لكان العمل تقليدياً، بل يطوي صفحة الجريمة بالكامل، منذ الحلقات الأولى، لتتوجه بوصلته إلى التركيز نحو أعماق نفسية الشخصيات المحيطة بالضحية، التي أدتها ببراعة الفنانة نيللي كريم... إن التركيز على «العقدة» والأزمات التقليدية في الأعمال الفنية هو واحد من أهم أسباب تراجع كفاءتها، وعدم عناية المتلقين بمتابعتها، إذ يظل المتابع في كل مكان من هذا الكون يتوق إلى تلك الأعمال التي تلامس شعوره، وتسبر أغوار أعماقه النفسية، وتحفزه على التفكير في واقع الناس والحياة والوجود... ولأجل ذلك، كانت تلك الأعمال هي الأصعب والأكثر احتياجاً إلى الماهر المتخصص المبدع، لأنه هنا، وعلى حد وصف فرجينيا، سيصف ما لا يوصف، ويرى ما لا يُرى، ذلك أن إدراك الأحجام الكبيرة سهل للغاية، يمكن أن يلاحظه كل الناس، لكن الإحاطة بالذرات المتناهية الصغر تحتاج إلى عيون خبير.
مشاركة :