إذا سألت أي مستمع عادي للأوبرا في إيطاليا، مثلاً، عن الأغنية الأوبرالية التي يحفظها غيباً ويمكنه دندنتها في أي لحظة من اللحظات، سيجيبك على الفور: « أو ميو بابينو كارو»، فإذا استطردت وسألته : من أي أوبرا هي؟ لن يعرف الجواب في الغالب. وذلك لأنها في الحقيقة تُغنّى في واحدة من أقل أوبرات جواكيمو بوتشيني شهرة. أي في أوبراه ذات الفصل الواحد «جيانّي شيشي». هي الأقل شهرة بين أعمال صاحب «توسكا» و «مانون ليسكو» و «مدام باترفلاي»، لكنها في الحقيقة ليست أقلها من ناحية قيمتها الفنية. وحسبنا أن نذكر هنا أنها، على رغم انتمائها إلى «الأوبرا الهزلية» مأخوذة من مشهد في «الكوميديا الإلهية» لدانتي. لكن المشهد من القصر بحيث أن بوتشيني جعلها جزءاً من ثلاثية يفترض أن تقدم دائماً بأجزائها الثلاثة معاً، لكن الذي حدث بعد ذلك هو أنها صارت تقدّم إما بمفردها، أو مع فصول أوبرالية لمؤلفين آخرين بحيث تاهت لتستعيد مؤخراً فقط جزءاً من قيمتها الأصلية. > تدور الحكاية في فلورنسا القرن الثالث عشر، أي أيام دانتي نفسه، حيث من حول سرير موت سيد العائلة الثري بوزو دوناتي يجتمع الأهل لسماع ما يقول في وصيته التي يكشفها الشاب رينوتشيو فقط مقابل موافقة والديه على زواجه من حبيبته لوريتا ابنة الخادم جياني شيشي. لكن المفاجأة تكون حين تكشف الوصية عن ان الراحل ترك كل أملاكه للدير. هنا يسقط في يد الجميع. ما العمل؟ ويجدون أنفسهم مضطرين الى ان يطلبوا من المعروف بحيله جيانّي ان يجد لهم طريقة تسوّى الأمور بها. فهو وحده القادر على ذلك. يقولون له هذا في الوقت الذي لا يتورعون فيه عن إبداء الاحتقار له. ولأن الرجل يحب ابنته ويسعى إلى خيرها، ينتهي به الأمر الى وضع استراتيجية نَصْب تقوم على تنكره هو وتبرجه تحت ملامح الثري الراحل، ليمثل أنه الآن يحتضر وأن الكاتب العدل إذ استدعي على عجل لأن المحتضر يريد أن يملي عليه وصيته، سيكون شاهداً على ما يحدث أمام عينيه وكيف سيقرر توزيع ثروته. وبالفعل يتم استدعاء الكاتب العدل الذي يصل ويجلس في حضرة العزيز الذي يوشك على مغادرة هذه الحياة الدنيا وبالتالي «تبدلت ملامحه بعض الشيء وبانت عليه إمارات الموت التي تبدّل الكائنات» وفق العبارات التي يتم تبادلها بموافقة أفراد الأسرة المتحلقين من حول سرير ا»لأب» و «الجد العزيز» يوافقون على كل كلمة يقولها. وفي النهاية تحل، بالطبع، اللحظة التي يبدأ فيها المحتضر وقد عاوده شيء من نشاطه ووعيه بإملاء إرادته في وصيته أمام الكاتب العدل الذي لا يسعه إلا أن يسجل ويوافق على كل كلمة يتفوه بها السيد دوناتي.... فما الذي يقوله في وصيته وقد بات لا مناص من أن تنفذ بحذافيرها؟ ببساطة لن ينال أحد من أفراد العائلة أي قرش، بل إن كل الأملاك والأموال سوف تذهب «الى العزيز الغالي الطيب جياني شيشي، الذي أمضى حياته كلها مضحياً من أجلي ومتفانياً في خدمتي» «إن جياني، الغائب في هذه اللحظة لست أدري أين، هو الذي يستحق الحصول على كل ما جنيته في حياتي، يفعل به ما يشاء»... وبالطبع تقع هذه الكلمات على رؤوس أفراد العائلة وقوع الصاعقة. ولكن ما الذي يمكنهم فعله وقد أجمعوا أمام حضرة الكاتب العدل أن المحتضر أمامهم هو بالفعل أبوهم وجدهم؟. لم يعودوا قادرين على كشف الحقيقة طالما أنهم مشاركون في جريمة الاحتيال. أملهم الوحيد الآن بأن ينالوا رضى الخادم الذي أصبح سيد القوم لعلهم ينالون شيئاً من فضلاته! لكنهم لن ينالوا شيئاً، فهو الذي عاش حياته كلها تحت وطأة إهاناتهم له وظلمهم واحتقارهم، حلّ الوقت الذي ينتقم فيه بعدما انقلبت لعبة السيد/العبد رأساً على عقب. وهكذا يطردهم جميعاً مبقياً فقط على رينوتشيو حبيب ابنته الذي سيقاسمها «ثروتها» الجديدة . > لا يمكن أحداً أن يماري، بالطبع، في أن جوزيبي فيردي هو السيد الكبير لفن الأوبرا في ايطاليا، ولكن من الظلم بالطبع اعتباره السيد الوحيد، كما يحلو لبعض المؤرخين ان يفعل، لأن في هذا تجاهلاً لعدد كبير من الموسيقيين النابغين من الذين قد يكون بعضهم سار على خطى فردي، لكنهم في نهاية الأمر كانوا أنداداً له، وصنعوا، معه، وأحياناً بالتضاد معه، فنياً وعاطفياً، تلك السمعة التي تتمتع بها ايطاليا كوطن كبير من أوطان الأوبرا. ومن بين هؤلاء الموسيقيين الذين نشير اليهم، يمكننا، هنا، أن نذكر طبعاً، بوتشيني الذي رحل عن عالمنا في عام 1924، مخلفاً عدداً كبيراً من الأوبرات ومجداً موسيقياً كبيراً يضاهي، بالنسبة الى البعض أحياناً، مجد استاذه وسلفه الكبير فردي. وفردي لم يكن – على اي حال – شيئاً عابراً في حياة بوتشيني، اذ يتعين ألا ننسى ان مشاهدة بوتشيني لعرض أساسي لأوبرا «عايدة» (لفردي) وكان لا يزال صبياً يافعاً، كانت هي التي اثارت حماسته، بعد ان كانت هوايته للموسيقى غامضة، فاتخذ قراره الحاسم بأن يكرس حياته كلها للموسيقى، وللموسيقى الأوبرالية بكل تحديد. بفضل هذا القرار، إذن، كانت تلك الأوبرات العظيمة التي لا تزال الى اليوم تشكل جزءاً أساسياً من «الريبوتوار» العالمي وتحمل توقيع بوتشيني، من «البوهيمية» الى «توراندوت» مروراً بـ «توسكا» و «مدام باترفلاي» و «فتاة الغرب» و «مانون ليسكو» وهذا العمل الغريب الذي نتحدث عنه هنا «جياني شيشي»... وما هذه الأوبرات الكبرى سوى جزء من عمل بوتشيني، وان كان الجزء الأساسي على اي حال. > ولد بوتشيني في العام 1858 وسط أسرة يشكل فن الموسيقى عيشها ومعاشها، وكان أبوه من موسيقيي الكنائس الشهيرين. وفي بداياته، قبل الوحي الذي هبط عليه بفضل «عايدة» فردي، انخرط جياكومو الفتى في الكتابة الموسيقية الكنسية ودوّن العديد من موسيقى القداسات، وهي قطع سوف يعود لاحقاً ويدمجها في بعض أشهر مقاطع عمله الأوبرالي، مثلما أدمج «الآنيوس ديي» من قداس كتبه باكراً، في أحد مشاهد «مانون ليسكو»، كما أدمج في «البوهيمية» جملاً موسيقية عديدة من «كابريتشيو» كان كتبه باكراً. والحال ان بوتشيني ما كان في وسعه ان يفعل هذا لولا ان كتابته الموسيقية الكنسية نفسها كانت قد اتسمت بطابع مسرحي أوركسترالي لا لبس فيه، حتى وإن كان النقاد اخذوا على هذا الموسيقي دائماً، وفي معظم أوبراته (إذا استثنينا «مدام باترفلاي» و «توارندوت» التي لم تقدم إلا بعد موته) ضعفاً أكيداً في التعبير الموسيقي حين يصل الى ذروة المشاهد الدرامية العنيفة. والحال ان المشهد الأخير من «البوهيمية» (مشهد الموت) يؤكد لنا حكم النقاد هذا، فهذا المشهد الذي كان يفترض في الأساس شحنة درامية هائلة تجمع بين أقصى درجات العنف (بسبب الموت) وأقصى درجات الحنان (بسبب البوهيمية نفسها) جاء من أضعف مشاهد الأوبرا. > ولكن هذا لم يكن ناتجاً من ضعف في تعبير بوتشيني الدرامي، كما يقول أنصاره بقدر ما كان مرتبطاً بطابعه الهادئ المناهض لعنصر المباغتة. وما يسري على «البوهيمية» في هذا السياق، ودائماً وفق انصار بوتشيني، يسري على بقية أعماله، حيث تسعى الموسيقى دائماً إلى تهدئة مشاهد العنف القاسية بدلاً من تمييعها. > غير ان هذا كله لا ينقص بالطبع من مكانة هذا الموسيقي الكبير الذي يعتبر مع فردي وروسيني من كبار موسيقيي ايطاليا خلال نهاية القرنين الأخيرين. وهو يتميز عن مواطنَيه، بأن انخراطه في بدايات القرن العشرين أتاح له الاطلاع على احدث منجزات علم النفس ودور الموسيقى في هذا العلم، وفي رسم الأجواء من حول مشاعر الشخصيات، وهذا ما يفسر اختياره المواضيع الحميمة لبعض أوبراته، كما يفسر قدرته الهائلة على وضع موسيقاه في خدمة التعبير عن جوانبه الشخصية، بحيث يبدو بعض المشاهد لديه وكأنه جدير بأن يعبَّر عنه سينمائياً بلقطات مكبرة. ومن هنا الى ان يقال إن بوتشيني هو مبتكر الأوبرا النفسية، خطوة قصيرة يحلو للبعض قطعها أحياناً.
مشاركة :