أمريكا أولا .. أم أمريكا وحدها؟

  • 1/14/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

"ليس لدينا حلفاء أبديون، وليس لدينا أعداء دائمون. مصالحنا أبدية ودائمة، وهذه المصالح من واجبنا اتباعها". بهذه الكلمات وصف هنري تمبل، صاحب لقب فيكونت بالمرستون الثالث، السياسة الخارجية البريطانية في عام 1848، عندما كانت في أوج أبهتها الإمبريالية. "إنجلترا تعتبر قوة قوية بما فيه الكفاية، وتتمتع بالصلاحية بما فيه الكفاية لتوجيه مسارها الخاص بها". إنه أمر أكثر من خيالي أن يتصور المرء الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترمب، وهو يقتدي برجل دولة بريطاني من القرن التاسع عشر. أسلوب بالمرستون لا يتناسب تماما مع عصر الإعلام الاجتماعي. لكن الذين يكافحون لفهم عاصفة التغريدات التي تعرض نظرة ترمب لن تغيب عنهم اللامبالاة المشتركة. لا علينا من التشابكات التاريخية والتحالفات والعداوات: بعد تنصيب ترمب هذا الأسبوع، ستضع أقوى دولة في العالم قواعدها. إلى حد كبير، يبدو شعار "أمريكا أولا" شديد الشبه بشعار "أمريكا وحدها". هذا، على أية حال، هو الخطة. صمم النظام الاقتصادي العالمي المفتوح الحالي من قبل الولايات المتحدة، لكن ترمب يعتزم تقديم قواعده الخاصة، بدءا من التنصل من اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، وإعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية مع المكسيك وكندا، وفرض رسوم جمركية باهظة على الواردات الصينية. لا علينا، أيضا، من الحنين إلى النظام الجيوسياسي القديم – وعلينا أن ننسى كل هذه الأشياء التي تتحدث عن القيم المشتركة والديمقراطية. هذا الرئيس المنتخب سعيد بالانحياز إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضد الرئيس الأمريكي المغادر، باراك أوباما، ومؤسسة السياسية الخارجية في آن معا. بالمثل يستخدم ترمب حساب تويتر لديه للتشكيك في أربعة عقود من الانخراط الأمريكي مع بكين، من خلال تحدي سياسة الصين الواحدة نحو تايوان. علينا ألا نتوقع الاتساق. في نفس واحد وعد بانسحاب الولايات المتحدة من الفوضى العنيفة في الشرق الأوسط، وفي اللحظة التي تلتها وعد بإنشاء "مناطق آمنة" في سورية - سياسة كان قد قال عنها في وقت سابق إن من شأنها أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. الذين يبحثون عن مخطط عظيم وراء كل ذلك سيصابون بخيبة أمل. ترمب يفضل عقد الصفقات على التفكير الاستراتيجي. "دليله" حول "أن نجعل أمريكا عظمى مرة أخرى" هو مزيج من الغرائز والتحيزات والنزوات. ومن بين المكونات: القومية الاقتصادية، والنفور من "العولمة"، والعداء تجاه المهاجرين، والتركيز المستمر على التطرف، ووجهة نظر قائمة على التعاملات محصلتها صفر في علاقات القوى العظمى. أضف إلى هذا المزيج الازدراء الواضح لحلف الناتو والمراوغة حول الضمانات الأمنية لحلفاء شرق آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية. رغم كل ذلك، التوتر بين التنصل من القيادة الدولية والوعد باستعادة قوة الولايات المتحدة وهيبتها – نستطيع أن نطلق عليها الانعزالية العدوانية - أشعل المزاج الوطني. تركة الحروب التي تتم حسب المزاج في العراق وأفغانستان استنزفت الدعم الشعبي للمغامرات الخارجية. مركز بيو للأبحاث سجل في حزيران (يونيو) أن ما يقارب ستة من كل عشرة أمريكيين يريدون من الولايات المتحدة "التعامل مع مشاكلها الخاصة وأن تدع البلدان الأخرى تتعامل مع مشاكلها الخاصة بأفضل ما يمكنها". لكن استطلاع الرأي نفسه يظهر أن هناك أغلبية لا تزال ترغب في أن تبقى الولايات المتحدة محتفظة بتفوقها العالمي. نحو الانعزالية الخوف العميق الذي يدور في أوساط حلفاء أمريكا هو أن رئاسة ترمب تضع خطا تحت نظام ليبرالي دولي تقوده الولايات المتحدة. ما وراء رفع علم الحمائية، وعد بالتخلي عن التزامات أمريكا فيما يتعلق بالمناخ. ومن الممكن أن يتوصل إلى اتفاق مع بوتين، متجاوزا الزعماء الأوروبيين، وأن يتنصل من الاتفاق النووي الدولي مع إيران. يشعر الأوروبيون بالفزع من مقترحاته لبناء جدار ضد المهاجرين المكسيكيين وإغلاق الحدود الأمريكية في وجه المسلمين، لكن القلق الاستراتيجي يكمن في الغرور الانعزالي - رفض ضمني لدور الولايات المتحدة في النظام الدولي الذي يستند إليه الغرب. التاريخ الذي يقض مضجعهم هو ذلك الذي يعود إلى الثلاثينيات، عندما تنحت أمريكا المشغولة بنفسها في الوقت الذي سقطت فيه أوروبا أمام الفاشية والحرب. بطبيعة الحال، الحلفاء يعملون منذ الآن على ترتيبات لاستيعاب النظام الجديد. كان رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، أول من حصل على لقاء مع الرئيس المنتخب. يرحب آبي بالخط الأكثر تشددا ضد بكين - ويشعر بالقلق أيضا بشأن تراجع التزام أمريكا بأمن اليابان. الحكومة البريطانية ممثلة في تيريزا ماي، وفي خضم فصل نفسها عن قارتها، لا تزال أكثر عصبية مما هو معتاد حول التشبث بما يشبه "العلاقة الخاصة". هذه العلاقات ليست بديلا عن التعاون المنهجي والمؤسسي الذي تميز في تسوية ما بعد عام 1945. دون قيادة الولايات المتحدة يبدأ مفهوم "الغرب" في فقدان معناه. ماثيو بيروز، وهو مستشار سابق في مجلس الاستخبارات القومي والآن مدير في مركز المجلس الأطلسي للأبحاث في واشنطن، يوضح ذلك بإيجاز: "السلام على الطريقة الأمريكية لم يعد مجديا. بدلا من ذلك، يعتقد ترمب أن الولايات المتحدة تعتمد على ذاتها بما يكفي للتنصل من النظام القائم على القواعد حتى لو تعرض الآخرون للأذى بسبب فقدان القيادة الأمريكية". كذلك يشير بيروز إلى أن حلفاء أمريكا خلصوا منذ فترة إلى أنه لا يمكن التنبؤ بتصرفات ترمب أو الوثوق بها. تصميم الصين على ترجمة قوتها الاقتصادية إلى نفوذ جيوسياسي من غير المرجح أن يتأثر بسبب التغريدات الاستفزازية من الرئيس المنتخب. ومما لا شك فيه أن بوتين يرى أنه سوف يتفوق على ترمب عديم الخبرة. يقول دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى عن تصريحات الرئيس الجديد: "علينا أن نرى مقدار ما يتم وضعه حيز التنفيذ، لكن من الواضح تماما أن ترمب يغلق الباب على القيادة العالمية للولايات المتحدة". ويصرح أحد صانعي السياسة الأوروبية البارزين: "سوف نتوصل جميعا إلى اتفاقيات ثنائية مع الإدارة الجديدة، لكن من الحمق التظاهر بأنه سيكون هناك توافق في الآراء على جانبي الأطلسي". ترمب يحتقر التعددية. وفي أوروبا التعددية لها مكانة عالية. نظرية البندول عند هذه النقطة، أي شخص متفائل (رغم وجود قلة قليلة منهم هذه الأيام) يستطيع الإشارة إلى أن اهتمام أمريكا بالعالم كان يزداد ويضعف منذ زمن المؤسسين الأوائل. كان البندول يتأرجح بين الانعزالية والاستثنائية، ومن الأحادية إلى الانخراط متعدد الأطراف. ترمب يريد من أوروبا تسوية مشاكلها الخاصة. قدم جورج واشنطن نقطة مماثلة في خطبة الوداع، عندما لاحظ أول رئيس أمريكي أن "المجادلات المتكررة" في أوروبا "غريبة عن اهتماماتنا". بعد ذلك بربع قرن تخلى الرئيس جيمس مونرو عن الانعزالية لمصلحة تعزيز دعوى الجمهورية الأمريكية الجديدة بالسيادة على نصف الكرة الغربي كله. ومع دخول القرن العشرين، كان ثيودور روزفلت يطلق مغامرات إمبريالية خاصة بأمريكا. وبعد الحرب العالمية الثانية تعلمت واشنطن الدرس من حقبة الثلاثينيات، من خلال تصميم نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة. في الآونة الأخيرة، بدأ الرئيس جورج دبليو بوش التبرؤ من اتفاقية كيوتو حول تغير المناخ ومن معاهدة عام 1971 التي تم التوصل إليها مع روسيا للحد من الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية. بعد الهجمات الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، سخر من التعددية القائمة على القواعد لمصلحة تقسيم العالم بين من هم "معنا أو ضدنا" في الحرب ضد الإرهاب. إذا أراد الآخرون الدخول في تحالف الراغبين، عندها لا بأس، لكن لن تكون الولايات المتحدة مقيدة من قبل مؤسسات، مثل حلف شمال الأطلسي. وكما صرح بوش (بنغمة تشي بما قاله بالمرستون) في خطابه عن حالة الاتحاد الذي ألقاه عشية غزو العراق عام 2003: "إن مسار هذا البلد لا يعتمد على قرارات الآخرين". وكما تبين فيما بعد، اختفت لحظة القطب الواحد في أمريكا بالسرعة نفسها التي وصلت بها تقريبا. حلم المحافظين الجدد بتحويل الشرق الأوسط إلى الديمقراطية ضاع في خضم الفوضى الدموية في العراق والسخط في أمريكا بسبب التكلفة الضخمة من الدماء والأموال. وقضى بوش جزءا كبيرا من فترة ولايته الثانية وهو يسعى لإعادة بناء الجسور التي نسفها مع الحلفاء أثناء فترة ولايته الأولى. تم استدعاء حلف الناتو إلى أفغانستان، في الوقت الذي سامح فيه كل من ألمانيا وفرنسا على معارضتهما لغزو العراق. ما كان صحيحا بالنسبة لبوش، بحسب الرواية المتفائلة، سيكون صحيحا أكثر بالنسبة لترمب. فقد مال ميزان القوة العالمي نحو الصين الآخذة في الصعود والأكثر حزما وروسيا ذات العقلية الحربية. هناك بعض الحقائق الجيوسياسية التي لا يستطيع الرئيس الجديد إنكارها. على الرغم من أن الفكرة تبدو مغرية بالنسبة لصانع الصفقات، إلا أن فصل المصالح الوطنية لأمريكا عن التزاماتها الدولية والتحالفات أمر مستحيل. الترابط الاقتصادي أمر لا يمكن أن يختفي بالتمني، والقوة العسكرية لها جوانب قصور خاصة بها، كما اكتشف الرئيس بوش في العراق. والتقوقع لا يوفر بديلا مجديا عن الانخراط. مهما كان الوضع، يتعين على الولايات المتحدة تعزيز مصالحها الوطنية وحمايتها، سواء الاقتصادية والتجارية أو الجيوسياسية والعسكرية. كانت استجابة أوباما وسطية، بحيث جمع بين الواقعية والأممية وأعاد صياغة دور الولايات المتحدة قوة جامعة. أحيانا كان ذلك ناجحا - والشاهد على ذلك الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية التغير المناخي في باريس. وفي معرض دفاعه عن تقاعسه إزاء سورية، قال الرئيس لمجلة "أتلانتك": "كان ينبغي لنا أن نكون واقعيين لا نتأثر بالعواطف في الوقت نفسه الذي نكون فيه من أصحاب العطف والكرم (...) هناك أوقات يكون فيها أفضل ما يمكننا فعله هو تسليط الضوء على أمر فظيع". يمكن أن يوجه منتقدوه التهمة بأن أوباما سمح للحذر الموثوق بالانجراف نحو الشلل المنهك. على أية حال، لدى أنصار نظرية البندول وجهة نظر معقولة. من الممكن تماما أن تصور أن تبدأ رئاسة ترمب برجل متفاخر يؤمن بالتصرف الأحادي، ثم يتكيف ويتحول مع الزمن بفعل وقائع التنافس الكبير بين القوى العظمى والترابط الاقتصادي. سيكتشف الرئيس الجديد قريبا جدا أن الولايات المتحدة تحتاج إلى مساعدة في حربها ضد تنظيم داعش، وأن الشركات الأمريكية يمكن أن تكون من بين أكبر الخاسرين بسبب الانزلاق مرة أخرى إلى النزعة الحمائية العالمية. ومن المرجح أيضا ألا يدوم افتتان الرئيس المنتخب ببوتين فترة أطول من محاولات مماثلة بذلها كل من بوش وأوباما لـ "إعادة ضبط" العلاقات مع موسكو. لا بديل عن الحلفاء رغم ذلك، يمكن أن يكون من الخطأ الاعتقاد بأن الماضي يمكن استعادته - وأنه بعد مرور بضع سنوات خطرة ومضطربة من الانعزالية، يمكن وبكل بساطة استعادة السلام على الطريقة الأمريكية "كما كان". لقد تغير العالم. والقوة الأمريكية يجري الوقوف في وجهها - ليس فقط من قبل الصين. كان هناك تحول مقابل في السياسة الداخلية للبلاد. كان النظام التجاري العالمي المفتوح يعني في الماضي التوسع في القوة الأمريكية: أسواق جديدة لشركات "فورد" و"آي بي إم"، والبقية. الآن، يجري اعتبارها في كثير من الأحيان عدوا للوظائف الأمريكية. ازدادت حدة منافسات القوى العظمى. والعولمة التي تم اختراعها في الولايات المتحدة أثناء السعي وراء تحقيق المصالح الأمريكية، تؤتي أكلها في الصين وفي غيرها من الدول المنافسة من النواحي الجيوسياسية. في نهاية الأسبوع، سيصبح ترمب زعيم أقوى بلد في العالم. بحسب معظم الحسابات لن يكون هناك مثيل للقوة العسكرية الأمريكية لعقود مقبلة. لكن الأسبقية ليست مكافئة للهيمنة. سيجد الرئيس الجديد أن معظم أهدافه بعيدة المنال في حال عملت أمريكا بمفردها. والصفقات ليست بديلا عن الحلفاء، والتغريدات الغاضبة لن تسهم في استعادة القوة والهيبة الأمريكية. كان بالمرستون على حق حين قال ليس هناك أي شيء في الجيوسياسة يدوم للأبد. لكن حتى حين كانت الإمبراطورية البريطانية في أوج مجدها، احتاجت إلى أصدقاء يساعدونها أثناء سعيها لتحقيق مصالحها. بناء على الأدلة المتوافرة حتى الآن، لا يمتلك ترمب العقلية ولا المزاج لإدراك مثل هذه القيود. والأخطار الفورية - بحدوث سوء تقدير يؤدي إلى مواجهة مع الصين في المنطقة الغربية من المحيط الهادئ، وهي "صفقة" تشجع النزعة الانتقامية لبوتين في أوروبا الشرقية، أو حدوث اشتباك مع إيران - واضحة بما فيه الكفاية. أما التهديد طويل الأجل فهو أن الرئاسة الأمريكية بقيادة ترمب ترى أن السلام على الطريقة الأمريكية، الذي عمل على استدامة السلام والاستقرار النسبي خلال السنوات الـ 70 الماضية يتلاشى ليصبح عودة إلى العالم الذي صوره الفيلسوف هوبز، القائم على صراع القوى العظمى. Image: category: FINANCIAL TIMES Author: فيليب ستيفنز من لندن publication date: السبت, يناير 14, 2017 - 03:00

مشاركة :