د. خليل حسين في قراءة لا عناء فيها، يتبيّن الغنج السياسي الذي تتمتع به إسرائيل في البيئة الخاصة بالأمم المتحدة. فما يصح لها لا يصح لغيرها، بل تكاد إسرائيل تستحوذ، من دون منازع، على أنها استثناء من قرارات الأمم المتحدة، وبكل ما يتعلق بعملها. وعلى الخلفية ذاتها، اعترضت إسرائيل على القرار 2334 المتعلق بعمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعتبرته عملاً عدائياً، وشنّت حملة دبلوماسية وإعلامية غير مسبوقة على أجهزة المنظمة، ومن صوّت مع القرار وعلى من امتنع (الولايات المتحدة منفردة)، وتوّجت حملتها بمعاقبة المنظمة باقتطاع ستة ملايين دولار من التمويل الذي تقدمه للمنظمة، والذي وُجه تخصيصاً لخمس لجان متخصصة بحقوق الإنسان ذات صلة بالفلسطينيين. وإذا كان هذا السلوك أمراً شائعاً بين أعضاء الأمم المتحدة من الوجهة السياسية، فهل له معيار قانوني، وما هي تداعياته على عمل الأمم المتحدة؟ في المبدأ، يعتبر تمويل الأمم المتحدة أمراً ملزماً للأعضاء المنضمين، وهو يشكل جزءاً لا يتجزأ من الالتزامات المفروضة على الدول، ويمتد هذا الإلزام إلى جوانب أخرى مرتبطة أصلاً بممارسة الدولة لحقوقها وواجباتها ضمن إطار أجهزة الأمم المتحدة، ودليل ذلك مثلاً لا حصراً، أن الدولة التي تنقطع عن دفع المستحقات المترتبة عليها للأمم المتحدة، لمدة سنتين مثلاً، تُفرض عليها عقوبة عدم الحق في المشاركة في التصويت ضمن أجهزة المنظمة. وبالتالي فإن عملية التمنّع عن دفع المستحقات، يعتبر إخلالاً بالالتزامات المنصوص عليها في نص الميثاق، لاسيما وأن التمويل الأساسي والرئيسي لأعمال الأمم المتحدة، يتأتى من اشتراكات الدول الأعضاء تحديداً، وبنسب متفاوتة بحسب إمكاناتها المالية والاقتصادية، وفي أي حال من الأحوال، تعتبر نسبة المشاركة الإسرائيلية في عمليات التمويل، من النسب المتواضعة جداً، مقارنة مع غيرها من الدول من جهة، ومقارنة بالتكلفة التي تنفقها الأمم المتحدة على العمليات المتعلقة بإسرائيل تحديداً، إن كانت لقوات اليونيفيل لحفظ السلام بين لبنان وإسرائيل، أو الأندوف في الجولان السوري المحتل، أو غيرها من المهام الإنسانية التي تقوم بها بعض أجهزة المنظمة المتعلقة بشؤون اللاجئين، القضية التي تعتبر فيها إسرائيل المسؤول الأول عن مآسي مئات الآلاف من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وفي العديد من دول الطوق. وفي الواقع أيضاً، لا تمثل هذه الحادثة تحديداً أمراً جديداً، ففي تاريخ العلاقات الإسرائيلية مع المنظمة عشرات الحالات المماثلة، لجهة التمويل أو غيره من الجوانب المتعلقة بعمل المنظمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالقوات سبق واعتدت، قصفاً وقتلاً، على العديد من المراكز الأممية في غزة ولبنان مثلاً، وألحقت أضراراً جسيمة بالممتلكات، وأزهقت الكثير من الأرواح، ولم تقدم تعويضات مناسبة مع حجم الأضرار التي تسبّبت بها، هذا في حال تم الدفع أساساً. وفي الواقع، فإن معاقبة إسرائيل للأمم المتحدة باقتطاع ستة ملايين دولار من حجم التمويل، لا يعتبر الأول، ولن يكون الأخير، وهو أمر اعتادت عليه إسرائيل وغيرها من الدول، بخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعتمد هاتان الدولتان تحديداً، سياسة الامتناع عن التمويل كسياسة عقابية وتأديبية في أي حالة لا تأنس فيها لقرارات الأمم المتحدة. علما بأن إسرائيل وحدها حتى الآن التي تمتعت بين الدول 193 المنضمة للأمم المتحدة بامتياز القبول المشروط للانضمام لعضوية المنظمة، وهو تعليق اشتراط القبول في العضوية على قبول إسرائيل لقرار التقسيم 181 وعودة اللاجئين 194 القراران اللذان لا يزالان حبراً على ورق منذ نشأة المنظمة، إنها فعلاً مفارقة يصعب إيجاد تبرير منطقي لها. فإلى متى سيظل هذا الاستثناء الذي بات عرفاً، بل قانوناً مطبقاً في أعمال الأمم المتحدة وقراراتها؟
مشاركة :