أوباما و ترامب.. قصة الكاهن و الساحر

  • 1/18/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

فوضى عارمة في ساحة الإمبراطور الواسعة، عبث وضوضاء، أطفال، ورجال، ونساء، يصفقون.. يصرخون.. يتشاجرون.. يرقصون.. يهتفون.. ينتظرون. فجأه، يدق الناقوس الضخم أعلى قبة القصر، فيجري الجميع نحو الباب العتيق، ويتوقفون تحت درجات السلم الكبير.. سُكوت.. يخرج حارس مزركش ليعلن الخبر على الملايين: "افتحوا الأبواب، ودقوا الطبول، ها قد ذهب الكاهن وجاء الساحر..". يأتي صوت جهوري من داخل القصر مردداً: "ها قد ذهب الكاهن وجاء الساحر.. افتحوا الأبواب.. ودقوا الطبول". ينحني الحارس المزركش أمام الجماهير، ثم يعود من حيث أتى، وتعود الجماهير للصخب، واللعب والصراخ. (2) هناك، بعيداً عن الزحام قليلاً، يخرج "الكاهن" من باب جانبي للقصر، وهو يحمل في إحدى يديه كتاب الصلوات، وفي اليد الأخرى منديله الأسود الكبير، الذي اعتاد أن يمسح به ذنوب الملايين، يقال إن المنديل اسودّ من كثرة ما مسح به من ذنوب، ويقال إن هذه خرافة، وإن الكاهن قد دخل به إلى القصر أسود، وخرج به أسود كما هو. على أية حال كان المنديل، ها هي الملايين الواقفة أمام باب القصر تبدو غارقة في الذنوب، وسكارى في بحور الآثام، وغائبة في ظلمات التيه والضلال، وكأن الكاهن لم يمسح على رؤوسهم بمنديله يوماً، وكأنه لم يغفر لهم ذنباً واحداً؛ بل لقد زاد من ذنوبهم، وضاعف من ثقل أوزارهم. نعم، الذنوب كما هي لم تزل، فهل هذه خطيئة الكاهن؟ أم هي ذنوب الجماهير الفظيعة التي لا يكفي منديل الكاهن لمسحها؟ هل خدعهم الكاهن أم خدعوه؟! هل كان هو منافقاً؟ أم كانوا هم قوماً فاسقين؟! (3) يخرج الكاهن من الباب الجانبي للقصر دون أن تهتف له الملايين، أو تلتفت حتى إليه، يخرج دون أي اهتمام بخروجه، حاول الكاهن أن يلوح للجماهير بمنديله، ولكنه فشل لأول مرة في جذب انتباههم. لم يرد على الكاهن التحية، سوى خدم القصر وحراسه على الباب الجانبي. أنا على يقين بما يدور في رأس الكاهن الآن، إنها الحسرة والندم، وخيبة الأمل، فهذه الملايين كانت قبل ثماني سنوات تعتبره المسيح المخلص، والملاك المقدس، وكان لكلماته تأثير أشد من المغناطيس، وأمتع من موسيقى بيتهوفن، يا لَه من بليغ! ويا له من خطيب مفوه! يسحر القلوب ويخلب الألباب، لم يكن يتكلم إلا بالعقل والحكمة، والموعظة البليغة، والمنطق الرشيد، وهذه الملايين كانت تحفظ ترانيمه عن ظهر قلب، ليت شعري ماذا دهاها؟! هل كفرت الجماهير بالكاهن وتراتيله؟ أم أنها اكتشفت أن كلماته كانت مزيفة؟ وأنها ليست من وحي الرب، بل هي من وحي الشيطان؟ أم أن الجماهير قد وقعت تحت تأثير الساحر الرهيب، فلم تعد تفرق بين الحق والباطل، والجد والهزل، والكذب والصدق، والإخلاص والنفاق؟! هل هو ذنب الجماهير؟ لا.. فلولا أن الكاهن خذلها، ما كانت لتلجأ إلى الساحر، ولولا أن العقل خذلها ما كانت لتلجأ إلى الخيال، ولولا أن العلم خذلها، ما كانت لتلجأ إلى السحر والشعوذة. (4) وهو يهبط درجات السلم الجانبي للقصر، يسعل الكاهن (يكح).. هذه سعْلة مُصطنعة، يحاول بها الكاهن أن يمنح لنفسة شيئاً من الثقة، التي هزَّها تجاهل الجماهير له، مجرد سعْلة ضعيفه يؤكد بها الكاهن لنفسه أنه ما زال موجوداً على قيد الحياة. ينسحب الكاهن في هدوء.. يذهب بعيداً عن الأضواء.. والضوضاء. ** "ها قد ذهب الكاهن وجاء الساحر" - تهتف الملايين. "نحن فعلناها.. فعلناها" - تهتف الملايين. "لا.. لا لم نفعلها" - يرد الضمير الغائب. يصفقون.. يصرخون.. يرقصون.. يهتفون.. يتشاجرون.. في ساحة الإمبراطور الواسعة. (5) يخرج من الباب الكبير للقصر ألف حارس مزركش، ثم ألف حارس مزركش، ثم ألف حارس مزركش.. ينحنون أمام الباب، ويهتفون على دقات الطبول ونغمات الموسيقى: "والآن، يتقدم الساحر الكبير..". الهتاف والأضواء والصخب تعلو من جديد. إنه يوم الزينة، يوم الجمال والجلال، يوم الحرير والذهب والأساور، يوم العروش والتيجان، واللؤلؤ والمرجان، هذا يوم ربما لم نشهد مثله في حياتنا وربما لن يأتي بعده مثله. يظهر "الساحر" فجأة أمام الملايين، وكأنما قد انشق عنه بلاط القصر، أو هبط من سمائه، لا ندري، تتلاعب الأضواء، وتتعالى الأصوات، والصرخات، وتدق الطبول "ها قد ذهب الكاهن وجاء الساحر.." تهتف الملايين. يقال إن الساحر يستطيع أن يحول التراب إلى ذهب، والعجوز إلى شابة، وأن يحول الثيّب إلى بكر، إنه بلا شك معجزة القرن في السحر، كما كان الكاهن معجزة القرن في الكهانة، فهنا في قصر الإمبراطور، لا مكان للبلهاء والضعفاء، وأنصاف الأذكياء، هذا القصر لا يدخله إلا العباقرة والمتفوقون، ليس شرطاً أن يكون التفوق في حرفة ما، فالكهانة والسحر والعلم والفن والطب والقانون كلهم سواء، المهم أن يكون الشخص هو أبرع أهل زمانه في تخصصه، حتى لو كان متخصصاً في الرقص على الحبال. (6) على جانبَي الساحة الكبيرة لقصر الإمبراطور، ووراء حاجز مائي يحيط بالساحة، ترى هناك طوائف مختلفة من البشر، لم تلحظها من قبل عيناك، ولكنهم هناك، هؤلاء مندوبون عن كل أجناس البشر التي خلقها الله على ظهر الأرض.. انظر إليهم: إنهم ساجدون على البلاط، ساجدون على التراب، ساجدون في الوحل والطين، كل يسجد حيث تقف قدماه، والآن فقط يستطيعون رفع رؤوسهم من سجودهم الطويل للكاهن، نعم، يرفعون رؤوسهم لينظروا إلى وجه الساحر. فما إن رأوا وجه الساحر، حتى ارتجفت قلوبهم، وخضعت أجسادهم، ثم خرّوا له ساجدين. (7) في الساحة الكبيرة لقصر الإمبراطور، سيدة ثلاثينية تمسك بيد طفلها الصغير؛ وهي تتمتم: "ها قد ذهب الكاهن وجاء الساحر"، يرفع الطفل رأسه إلى وجه أمه، الذي تتلألأ في صفحته أضواء الساحر، كأنها مساحيق تجميل؛ ثم يتساءل: "ماما.. ها قد رأينا الكاهن يخرج من القصر، ورأينا الساحر يدخل إليه، فمتى نرى الإمبراطور صاحب القصر؟ أنا أريد أن أرى الإمبراطور". ترد الأم وهي شاردة بعينيها تتابع أضواء الساحر: "الإمبراطور لا يخرج على الملايين يا صغيري، فالإمبراطور في قلوبنا، لا يمكن أن تراه عيوننا". ثم تمتمت بصوت متهدج، وهي تمسح على رأس صغيرها: "ها قد ذهب الكاهن وجاء الساحر". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :