في زمن التحولات الكبرى، أخذت النجومية مساراً معاكساً لما كانت عليه قبل سنوات. صناعة النجم اختلفت. وأساليب الشهرة تبدلّت. «يوتيوب» صار مختبراً للنجوم الجدد، عوضاً عن التلفزيون. تحرّر المشاهد من سلبيته، أزيحت عنه قيود فُرضت عليه طويلاً فغدا فاعلاً ومشاركاً في «مليونيات» تُقحم أصحابها إلى عالم الأضواء، بمعايير تتجاوز تقليدية المحطات. أبلة فاهيتا، «مليونيرة الويب»، واحدة من نجومٍ كرّستهم تقنيات التواصل الحديثة قبل أن تصير الرقم الصعب على الشاشة الصغيرة. هي تقترب في ظروف انطلاقتها وشعبيتها، من مسيرة باسم يوسف، الطبيب الذي قاده «يوتيوب» الى الشاشة فأضحى إعلامياً بنجومية اتسعت حدودها حتى بلغت العالمية. لكنّ ميزة «الأبلة» أنّها دمية، ابتكرها عقل شبابي وجعلها كياناً ناطقاً، مفكراً، ساخراً، بمعنى آخر أنسنها إلى حدٍّ بات يصعب علينا التصديق بأنّ «أبلة فاهيتا» ليست أكثر من دمية إسفنجية تُحركّها أصابع رجل. ومن يتابع «أبلة فاهيتا... لايف من الدوبلكس» على قناة «سي بي سي» (مساء كلّ جمعة)، يمكن أن يتكهن حجم الموازنة التي وضعت لبرنامجٍ لا يحظى بمثله كبار الإعلاميين. فريق عمل هائل، ديكورات ضخمة، ضيوف من الصف الأول، والأدهى أزياء الأبلة. فهي ترتدي من تصاميم أكبر الأسماء، مثل اللبنانيين العالميين إيلي صعب، كريكور جبوتيان، شربل زوي، والمصري هاني البحيري... وفي الحلقة الماضية، واحدة من أقوى حلقات الموسم الرابع، تواجهت الأبلة مع زميلتها الإعلامية لميس الحديدي، في القناة ذاتها، فدارت معركة كلامية بين الضيفة «الحديدية» والأبلة «سليطة اللسان» حول الرقم واحد في «سي بي سي»، وتمثلّت هذه المواجهة في «ديو» غنائي استعرضت فيه كل واحدة منهما نقطة قوّتها، باعتبارها «نجمة» القناة. فنجحت فاهيتا في أن تكشف الوجه الآخر لمقدمة «هنا العاصمة»، المعروفة برصانتها وجديتها على الشاشة. وفي حين بدت الحديدي بشخصية مختلفة، أثبتت الأبلة الذكية أنّها قادرة على تطويع ضيوفها وجرّهم إلى منطقتها الجريئة، خارج أطر المسلّمات. لا شك في أنّ «فاهيتا» هي شخصية مصرية بامتياز، وقد استحوذت بداية على اهتمام المتفرّج المصري قبل غيره، وهو الأفهم بسيكولوجيتها والأقدر على تحليل خطابها، لكنها استطاعت أخيراً أن تتجاوز «مصريتها»، لتصير رمزاً عربياً في مجال الإعلام. في بعض البرامج العربية، بدأنا نصادف نسخاً مصغرة عن «فاهيتا» المصرية، ومن بينها دمية «جيم» في فقرة ضمن برنامج «بس مات الوطن» (إل بي سي)، للمخرج شربل خليل الذي كان سبّاقاً في إقحام الدمى عالم التلفزيون عبر برنامجه الساخر «دمى قراطية»، الذي تتخذ فيه الدمى فيه أشكال شخصيات سياسية، من دون أن يمنحها كياناً جديداً ومستقلاً. وفي حلقة الإثنين من «منّا وجرّ» (على شاشة «أم تي في»)، توقف البرنامج عند حلقة «أبلة فاهيتا» مع لميس الحديدي، علماً أنّه يرصد عادة البرامج اللبنانية من دون غيرها. تناول ميزات «أبلة فاهيتا» التي يحتاج التلفزيون إليها، في ظلّ تسييس البرامج وتضييق هامش الحرية النقدية وفق تبعية القناة. فاهيتا لا تخاف أحداً، تُطوّل لسانها على الكلّ - فنانين وسياسيين وإعلاميين - فلا ترحم هفوة ولا تسهو عن زلّة. وهل كان ذلك ممكناً لو لم تكن دمية؟ هذا فعلاً ما أراده صانعها. وقد أعطيت الدمية اسماً وهوية ومواصفات، حتى طغت بنجوميتها على من يقف خلفها. وهنا تذكّرنا الأبلة بفيلم الخيال العلمي «سيمون» لأندرو نيكول، فيقرر مخرج شهير (آل باتشينو) أن يصنع «نجمة» يتحكّم بأدائها وشكلها ومواصفاتها عبر تطبيق إلكتروني، يُحرّره من الرضوخ لأمزجة النجمات الحقيقيات وغرورهن. وحين تحقّق «تركيبته» شهرة واسعة، يغدو احتجابها مسألة تشغل بال الجميع، فيتجه الاهتمام نحو الممثلة بدلاً من الفيلم الذي وضع فيه المخرج كل إمكاناته. هكذا هي «أبلة فاهيتا»، سرقت الأضواء من حولها ونسي الجميع الرجل المتخفي خلفها. اتخذ التعاطي معها صيغة إنسانية، وهذا ما أراده مبتكراها (حاتم وشادي) حين اشتغلا عليها، شكلاً ومضموناً، فجعلاها أرملة... هي أم لولدين، أنيقة، جريئة، ساخرة. والأهم أنّها تملك خطاباً خاصاً بها. منحاها لغة متفردة تمزج بين العامية المصرية والإنكليزية من جهة، وبين الفكاهة والبذاءة من جهة أخرى. وهذا الخطاب المتفرّد دفع الباحث والأكاديمي فريديريك لاغرانج إلى تحليله، معتبراً أنّ الدمية الظريفة صاحبة التغريدات المتهكمة نجحت في أن تتحول خلال أربع سنوات، من نكتة طريفة إلى ظاهرة اجتماعية رصدت بأسلوبها الساخر تحولات مصر ما قبل الثورة، وما بعدها. والمعروف أن السخرية هي قبل كل شيء لعب على اللغة والكلام. فاهيتا التي لا يسلم منها أحد، بدءاً من فريق عملها ( تنادي الموسيقي الذي يرافقها مثلاً «دق يا سنباطي») وصولاً إلى النجوم والزعماء، تحشر أنفها في أكثر المواضيع جديّة، وتجعلها قابلة للضحك. ترصد الغلاء وتحكي عن تعويم الدولار وتنتقد ترامب... صارت فاهيتا إعلامية حقيقية ينتظرها بعضهم بشوق، ويُشكّك فيها بعضهم الآخر. هي ضحكة الشعب المصري عند فريق، ومؤامرة ماسونية هدفها تحطيم القيم الراسخة عند فريق آخر. وبين الموقفين، تظلّ «أبلة فاهيتا» واحدة من تجليات الروح المصرية الظريفة. ولكن، إزاء كلّ هذا التهكّم والجرأة، إلى متى ستنعم «الدمية الوقحة» بهذا الهامش من الحرية في بلاد يُحاكم فيه الخيال بتهمة خدش الحياء؟
مشاركة :