يقضي أطفال ساعات وساعات متسمّرين أمام شاشات هواتفهم الذكية أو حواسيبهم المتطورة. يميلون يميناً ويساراً وهم «يقودون» سيارة سباق في إحدى الألعاب التي أنزلوها على أجهزتهم، أو يقفزون أسفاً أو ألماً وهم جالسون على أرائكهم كلما خسروا، أو «ماتوا»، في لعبة ما. وحتى عندما يلتقي الأطفال مع رفاقهم فإن حديثهم غالباً ما بات ينحصر في عدد النقاط التي تمكّن أحدهم من جمعها في لعبة ما يتنافسون فيها جميعهم «من بُعد»، إذ لدى كل منهم جهازه الذكي وحسابه الخاص على مجموعة من الألعاب التي يمكن بسهولة الوصول إليها عبر شبكة الإنترنت. ظاهرة صحية؟ يعتقد أهال كثر، بالتأكيد، أن هذه ظاهرة ليست صحية بتاتاً، بل إنها تثير قلقاً مشروعاً لديهم على «صحة» أبنائهم وبناتهم. لكن دراسة صدرت قبل أيام فقط عن جامعة أوكسفورد لا بدّ وأنها ستفاجئهم، فقد خلصت الدراسة إلى أن الأهل لا يجب أن يقلقوا كثيراً على الوقت الذي يقضيه أطفالهم أمام شاشات أجهزتهم الذكية وهم يشاهدون برامج معينة أو يلعبون ألعاباً عليها، لأن ذلك في الواقع يفيدهم صحياً بدل أن يضرّهم. وأجرى الباحثون القائمون على الدراسة لقاءات استجوابية مع 120 ألف صبية وصبي في عمر 15 سنة ممن يشاركون في ألعاب على حواسيبهم وهواتفهم الذكية، وقارنوا بين صحتهم الذهنية والبدنية وبين الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات، فوجدوا أن استخدامهم الأجهزة الذكية يفيدهم صحياً في واقع الأمر، بعكس الانطباع الواسع الانتشار بين الأهل وخبراء كثر. وتدخل الدراسة المنشورة في مجلة «العلوم النفسية» (سايكولوجيكال ساينس) في تفاصيل الفترة الزمنية التي يقضيها الطفل أمام جهازه وارتباط ذلك بسلامته الصحية، إذ توضح أن الباحثين وجدوا أن صحة الطفل تكون في أفضل حالاتها بعد أن يكون قد أمضى 4,17 ساعة يومياً أمام شاشة حاسوبه، قبل أن يبدأ وضعه الصحي في التراجع كلما قضى وقتاً أطول أمام الشاشة. أما الوقت الأفضل لصحة الطفل أمام شاشة الهاتف الذكي، فهو ساعتان يومياً. وتضيف الدراسة أن الوقت الأفضل للطفل وهو يلعب إحدى ألعاب الفيديو فهو بحدود 40 دقيقة يومياً. ورأت صحيفة «التلغراف» أن ذلك يعني أن هناك «وقتاً مناسباً» لصحة الطفل يرتبط بالفترة التي يقضيها أمام جهازه الذكي، بحيث يتضرر الطفل إذا قضى وقتاً أطول أو أقصر أمام الجهاز، تماماً كقصة الأطفال الشهيرة «غولديلوكس» حيث الطفلة ذات الخصال الذهبية لا يمكنها أن تحتسي الطعام سوى من الصحن الذي تكون حرارته «معتدلة» في منزل الدببة الثلاثة، لأن الصحنين الآخرين يكون أحدهما بارداً فيما الثاني شديد الحرارة. سترتفع حرارة الأهل بالتأكيد عندما يطلعون على هذه الدراسة، وبعضهم ربما سيسعى إلى إتلاف أي أثر لها في المنزل خشية أن يلجأ إليها أطفالهم متسلّحين بها دفاعاً عن حقهم في قضاء وقت أطول أمام شاشات أجهزتهم «حرصاً على سلامة صحتنا الذهنية والبدنية»، كما سيتحججون. ويقول الدكتور أندرو برزيبلسكي، من معهد الإنترنت في جامعة أكسفورد، إن «الأبحاث السابقة بسّطت العلاقة بين الشاشة الرقمية والصحة الذهنية للمراهقين (...) عموماً، وجدنا أن الاستخدام الحديث للتكنولوجيا الرقمية ليس بالضرورة مؤذياً بل يمكن أن تكون له فوائد في عالم مترابط، إلا إذا استخدمت الأجهزة الرقمية لأوقات أطول أو أثّر ذلك في النشاطات (التي يقوم بها المراهقون) بعد انتهاء يومهم الدراسي». ويضيف: «يوحي بحثنا بأن بعض التواصل (عبر شاشات الأجهزة الرقمية) أفضل ربما من عدم وجوده، لكن هناك مستويات معتدلة من الاستخدام تكون مناسبة للشابات والشبان اليافعين». وتتناقض هذه الدراسة مع دراسات أخرى كثيرة كانت تحذّر من قضاء الأطفال أوقاتاً طويلة أمام أجهزتهم الإلكترونية. ووفق دراسة شهيرة أجراها باحثون في الصين عام 2004، تبيّن أن عقل الإنسان «يتقلّص» إذا قضى وقتاً طويلاً وهو يتصفّح شبكة الإنترنت، في حين حذّر علماء نفسيون من أن الأطفال يمكن أن يصبحوا بالغي الحساسية وتنتابهم نوبات غضب نتيجة ااستخدام الطويل لأجهزتهم الذكية. كما أن قضاء وقت طويل أمام شاشات الحواسيب والهواتف الذكية يمكن أيضاً أن يؤثّر سلباً على حاجة الأطفال لساعات نوم كافية. سياسة الاعتدال في المقابل، أظهرت دراسات أخرى أن هناك بالفعل فوائد لاستخدام الأطفال أجهزتهم الذكية، كون ذلك يساعدهم في عالم بات يعتمد إلى حد كبير على سعة الاطلاع على عالم تكنولوجيا الإنترنت. كما أن ألعاباً كثيرة يمكنها أن تساعد الأطفال على تطوير تفكيرهم الذهني، كما يحصل في الألعاب التي تتطلّب المشاركة في عمليات بناء هندسية، أو التفكير مسبقاً في الخطوات التي عليهم سلوكها خشية عواقب اللجوء إلى خطوة خاطئة. كما أن هناك ألعاباً أخرى كثيرة تتطلب منهم إجراء عمليات حسابية، تساعدهم في تطوير قدراتهم على التعامل مع الأرقام. وإذا كانت هذه الدراسات المتناقضة يمكن فعلاً أن تسبب الحيرة لدى الأهل في شان أطفالهم وحواسيبهم الذكية، فإن المنطقي أن يلجأ أرباب الأسر إلى سياسة بسيطة تقتضي «اعتدالاً»، كقصة «غولديلوكس» الشهيرة، إذ يمكنهم السماح للأطفال بأن يستخدموا أجهزتهم الذكية بشرط أن يكونوا أنجزوا فروضهم المدرسية. لكن التحدّي الذي سيواجهونه هو إقناع أطفالهم بأن الدراسة الجديدة التي تنصح بقضائهم أكثر من 4 ساعات أمام شاشة الكمبيوتر يومياً هي دراسة خاطئة. ففي عالم اليوم، لن يكون صعباً على الأطفال العثور على هذه الدراسة على شبكة الإنترنت و «التسلّح» بها في معركة الحواسيب والهواتف الذكية مع أهلهم.
مشاركة :