التشكيلية اللبنانية متعددة المواهب جنان مكي باشو معرضا تجهيزيا كبيرا في القاعة المتحفية البيروتية صالة صالح بركات، تميّز بسينوغرافيا لافتة تعاون على تنفيذها صاحب الصالة المتمرس والمتضلع في شؤون الفن والفنانة المخضرمة، لعلمهما بأن عملا تجهيزيا ضخما كهذا لا يمكن إلا تصميمه وتقديمه بأسلوب لا يلائم فقط عدد وأشكال المعروضات، بل منطق وفكرة المعرض بشكل أساسي. العربميموزا العراوي [نُشرفي2017/01/20، العدد: 10518، ص(17)] من شظايا الموت يتشكل الفن بيروت – جاء معرض “حضارة” للتشكيلية اللبنانية جنان مكي باشو، والذي استضافته مؤخرا صالة “صالح بركات” البيروتية، ليختصر وباء مكرّسا منذ سنوات عكف العالم بأسره على سن قوانينه والخضوع له في آن واحد. ويقع نظر زائر المعرض لدى دخوله الصالة على بضع منحوتات من الحديد والبرونز تمثل أشجارا من الأرز، وقد طوعت أشكالها الفنانة لتكون من ناحية مختلفة عن بعضها البعض من حيث “تشرذم” أغصانها وسمك جذوعها، ولكنها من ناحية ثانية متشابهة من حيث كونها مؤلفة في أغلبها من مخلفات معدنية حادة لشظايا الصواريخ والقنابل التي تلقاها لبنان خلال الحرب الإسرائيلية في الثمانينات من القرن الماضي. يُذكر أن عددا من الفنانين اشتغل قبل جنان مكي على تشكيل هذه الشظايا في منحوتات، ولعل أهمها ما صنعه الفنان النحات فارس غصوب في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ولكن جنان مكي في منحوتاتها، أصرت على تبديل وتغيير مظهر تلك “الأشلاء” المعدنية النهائي عبر استخدامها لشتى أساليب التطويع ومن ضمنها عنصر النار، بدلا من شبه الاكتفاء بجمعها في أشكال معبرة كما فعل الفنان فارس غصوب. ثلاث سنوات وأكثر واظبت الفنانة فيها على تصميم وتنفيذ المنحوتات التي ثابرت على جمع موادها طوال سنين الحرب اللبنانية، دون أن تعرف تماما ماذا تريد أن تصنع بها؟ حتى جاءت اللحظة التاريخية المدوية التي شهدت ولادة الفكرة بكل وضوحها وتفاصيلها ومن ثم تنفيذها وفق هذه التصورات. أما اللحظة التاريخية المدوية، فيبدو أنها اللحظة التي اكتملت فيها، أو شبه اكتملت بذهن ومخيلة الفنانة، صورة الدمار الشامل الذي لحق بالمنطقة العربية ككل، والاهتزاز الذي أصاب مفهوم الإنسانية خلال الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية. فترة من عسل شهدها العالم كله، لكنه ما لبث أن نضح عنه سمّ قوامه اللامبالاة بالآخر، وخاصة عند بداية الألفية الثانية التي لازالت تشهد إعادة تعريف للقيم الإنسانية وبرمجة وتصنيف الأولويات لدى كل بلد من البلدان. الفنانة تريد عبر أسلوب نحتها للدمى التفريق بين شكل الضحية والجلاد، لكنها لا تفلح في ذلك، فهما سواسية في الهزيمة بعد زيارة الطابق العلوي من المعرض سينتقل الزائر إلى القسم السفلي، أو ما نريد أن نسميه هنا بالبنية التحتية للطابق الأول، حيث أنصاب الأرز المعدني المشكل من آثار العنف والعدوان. هناك في الطابق السفلي ستنكشف أمام الزائر خارطة العالم بأسره، وليست فقط خارطة المنطقة العربية التي تشهد التحركات البشرية وموجات التهجير وأفعال الآلات الحربية المتطورة وغير المتطورة على السواء، التي يستعملها البشر في فلاحة الأرض ببذور الموت والكراهية منقطعة النظير. وكمن يشاهد فيلما سينمائيا ولكن بهيئة تجهيز فني، سيعثر المتنقل ما بين البقع الجغرافية التي اصطنعها صاحب الصالة على حشد من الدمى/المنحوتات الحديدية والبرونزية المشغولة ببراعة تقنية دقيقة، تجسد مختلف أنواع القتل البدائية وغير البدائية من سكاكين وأقفاص ونبل ودبابات وطيارات، وسيشاهد أيضا الجماعات الإرهابية وأفعالها من قبيل داعش وغيره من العصابات التي تتشابه من ناحية فداحة الإجرام والتواء المنطق المحرك لأفعالها. كما سيرى عبر سلسلة من المشاهد فصولا من الانتهاكات بحق الإنسان كالسجن والحرق والقتل والسبي والتعذيب، إضافة إلى مشاهد غرق المئات من المهاجرين الفارين من الحروب المشتعلة في أوطانهم، لا سيما الفارين من سوريا، وسيرى فصولا بصرية تختصر تدمير الأماكن والرموز الحضارية في تلك المناطق، ونذكر في هذا السياق حادثة تهديم متحف الموصل وهدم متحف نينوى وأيضا حرق الكتب والمخطوطات الثمينة. تبدو الفنانة في عملها التجهيزي الملحمي الضخم “كاسحة للألغام”، والمقصود بالألغام هنا هو انعدام التعاطف مع الضحية أو الرغبة في إدانة المجرم، منغمسة في الجغرافيا “الشطرنجية” التي زرعتها بالدمى، حيث لا تسمح لنا بأن نقيم تواصلا عاطفيا مع ما ترينا إياه، وحسنا فعلت. نغادر الصالة ونحن في حالة يأس عام ليس فيه مثقال شعور أو انقباض عاطفي. إنه اليأس البارد برودة الجنون الذي وصل إليه الإنسان بشكل عام، وليس المتجسد حصرا في مجموعة من إرهابيين ينفذون على الأرض ما طلب منهم. لم تشر الفنانة إلا إلى العدوان الإسرائيلي والإجرام الداعشي، ولكن ماذا بشأن الإجرام الآخر؟ ومنه ما كان سببا من أسباب نشوء تلك الجماعات؟ أين الاشتراكات والتداخلات التي وجب أن تقدمها الفنانة لمجرد أنها قدمت معرضا تجهيزيا بهذه الملحمية والضخامة؟ مجرد عرض لما يحدث في هذا النطاق الضيق (بالرغم من اتساعه) لا يكفي في هكذا نوع من الأعمال التجهيزية، فعرض الاهتراء لا ينحصر في المنطقة العربية فحسب، بل يعشش في العالم كله، وما يحدث في هذه المنطقة العربية ليس سوى تجل قذر لما يحدث هناك خلف البحر الذي صورته الفنانة وخلف الرمال التي سعى على سطحها الفاسدون المحليون. يغادر زائر المعرض وفي ذهنه فكرتان اثنتان لا تحركهما أيّ عاطفة، الفكرة الأولى هي أن ضحية اليوم ستكون حتما المجرم المستقبلي والعكس صحيح، الفساد هو في صلب الطبيعة البشرية حتى وإن أرادت الفنانة عبر أسلوب نحتها للدمى التفريق بين شكل الضحية والجلاد، لكنها لا تفلح في ذلك، فهما سواسية، على الأقل في الانطباع الذي ربما تركاه في نفس زائر المعرض، أما الفكرة الثانية فهي مجسدة تماما في ما قاله يوما جان بودريارد “التاريخ الذي يعيد نفسه هو مهزلة، أما المهزلة المُعادة فتصبح تاريخا”، فهنيئا لنا بتاريخنا البشري المشترك. :: اقرأ أيضاً قصص تونسية أبطالها أسرى في مشفى للمجانين القصة القصيرة أسيرة جزيرة شبه مهجورة رواية أميركية عن الحزن والمنفى والهوية ثلاثة كتب عمانية بين النقد والبحث والرواية
مشاركة :