أياً كانت الإعاقة التي يولد بها الطفل، فهناك لا شك طاقة ما لديه يمكن استغلالها لإسعاده وإسعاد مَن حوله، ولفت أنظار المجتمع إلى ما يتمتع به من قدرات تؤهله لأن يكون عضواً نافعاً فيه، لا عبئاً عليه. هذا ما تنبّهت إليه سيدات مصريات لديهن أطفال يعانون إعاقات جسدية أو حتى عقلية مختلفة، وقررن خوض تجربة مسرحية يشارك فيها أطفالهن، كل وفق قدراته. ونجحت التجربة، ما حفّزهن على مواصلة المشوار. لم يكن الأمر سهلاً في البداية للمخرجة المسرحية أميرة شوقي، مؤسسة المشروع، والتي رزقها الله طفلاً يعاني التوحد. سألت نفسها، بعد أن عجز الطب عن علاجه، كيف تدمج هذا الطفل في المجتمع وتحوله من عبء عليه إلى كائن نافع ومشارك وجالب للسعادة لنفسه وللآخرين. اهتدت أميرة بحكم تخصصها إلى المسرح، وراحت تبحث عن أطفال وشباب آخرين لديهم إعاقات، أو كما تحب هي أن تقول «قدرات خاصة»، لتشكل منهم فريقاً مسرحياً تحول بعد ذلك إلى مؤسسة أُطلق عليها «الشكمجية» ضمّت حوالى 76 طفلاً من أصحاب القدرات الخاصة: صمّ، داون سيندروم، توحّد، إعاقة بصرية، إعاقة حركية، إعاقات مركبة، أعمارهم من سنة ونصف السنة حتى 30 سنة. وليس سهلاً التعامل مع أصحاب هذه الحالات وتدريبهم وإعدادهم في منأى عن أمهاتهم. كما أن الكلفة المالية للعروض ليست متوافرة في شكل يسمح بالاستعانة بمتخصصين. فكان أن دربت أميرة شوقي الأمهات على تنفيذ الإضاءة والصوت وتصميم الديكور والملابس ووضع الماكياج، وكل ما له علاقة بصناعة المسرح، وانخرطت الأمهات في التدريب ونجحن. الجميل في الأمر، أنه عند تقديم هؤلاء الأمهات للجمهور في نهاية كل عرض، تتخلى كل منهن عن اسمها وتحتفظ فقط بكنيتها: أم أحمد، أم جرجس، أم زوزو، أم رجائي، وهي أسماء أولادهن المشاركين في العرض. وعلى مسرح «ملك» في القاهرة، قدم الفريق عرض «مصر الجميلة» الذي اعتمد على فكرة بسيطة تتيح للممثلين استعراض مواهبهم وقدراتهم سواء في التمثيل أو الغناء أو الأداء الحركي. هم مجموعة من الأطفال في رحلة يطوفون خلالها في أماكن عدة في بلادهم مستعرضين جمالها وإمكاناتها، والرحلة هي الخيط الدرامي الذي يربط المشاهد، واستعانت المخرجة بمشاهد سينمائية صوَّرتها لأطفال من فرقتها لديهم إعاقات حركية فادحة لا تسمح لهم بالوقوف على الخشبة، من دون أن يخل ذلك بالسياق الدرامي للمسرحية. منهم من ألقى شعراً، ومنهم من غنّى أو حتى تحدث عن نفسه بما يخدم السياق العام للعرض ويشكل جزءاً منه. أمام هذه العروض، على المشاهد أن يتغاضى قليلاً عن شروط المسرح الاحترافي، علماً أن العرض فيه الكثير من المسرح، سواء من حيث الفكرة التي يتناولها، أو من حيث طريقة تقديمها عبر وسائل تحقق الحدود الدنيا من الجودة المطلوبة. ويعجز كثر عن حبس دموعهم فيما يستمعون إلى الأطفال يغنون معاً عن حقهم في الحياة ويدعون المجتمع، لا إلى التعاطف معهم، بل إلى تقدير مواهبهم والإيمان بقدرتهم على المشاركة كغيرهم ممن لم يُرزقوا قدرات خاصة. ثلاث سنوات تقريباً، هي عمر «الشكمجية»، استطاعت المخرجة أميرة شوقي خلالها أن تخرج كثراً من أصحاب القدرات الخاصة من عزلتهم وآلامهم وتدمجهم مع غيرهم، وتزيل الحواجز النفسية بينهم وبين المجتمع، وتحولهم من عبء على أسرهم ومجتمعهم إلى مصدر سعادة لأنفسهم ولغيرهم. وهذا ما دفع «البيت الفني للمسرح»، المؤسسة المسرحية الرسمية الأكبر في مصر، إلى مد يد العون لهؤلاء، إّذ قرر رئيسه إسماعيل مختار تخصيص مسرح «ملَك» التابع للبيت لتقديم عروضهم عليه، وكذلك المساهمة في إنتاج ثلاثة عروض يتحمل البيت كلفتها وهي «الأحدب»، «كمان زغلول»، «أحلام حقيقية». ويقول مختار أنه انبهر بقدرات هذا الفريق الذي لا يحتاج إلا إلى توفير عناصر محترفة تساعده في تقديم عروض أكثر جودة وإتقاناً، وإن ظلَّت الحاجة إلى الأمهات قائمة لأنهن «أصل الموضوع» الذي لن يكتمل من دونهن... أصحاب قدرات خاصة اكتشفهم المسرح واكتشفوا أنفسهم فيه، وبعد عروض عدة اقتصرت مشاهدتها على أسرهم فقط، ها هم يوسعون أحلامهم ويخرجون إلى الجمهور قائلين: «نحن هنا، نحن نستطيع».
مشاركة :