بلباسٍ عسكري موحّد، ونشيدٍ جهادي يُذكّر من يسمعه بجنود تنظيم القاعدة وتسجيلاتهم في أفغانستان، كان الظهور الأول في أواخر ديسمبر 2011. ابقت النصرة على غموض تنظيمها وعديدها، بينما ذُهل أعداؤها بحجم القوة التي أظهرتها، حتّى باتت من أبرز التنظيمات المقاتلة على الأرض السورية. في 24 يناير، أصدرت النصرة بيانها الأول ممهوراً بختم مؤسسة "المنارة البيضاء للإنتاج الفني". حددت الجبهة الخطوط العريضة التي تلتزم بها، في طليعتها محاربة النظام السوري وإسقاط الأسد، تمهيداً لإنشاء دولة إسلامية على الأرض السورية. وسُرعان ما نجحت "النصرة" في ابتلاع فصائل معارضة كبرى، من خلال الترغيب الماضي للمقاتلين، أو الترهيب والحرب المباشرة على الفصائل المعارضة لأفكارها، خاصةً الفصائل المعارضة العلمانية، فالنصرة، بإصداراتها الدورية، تركز على محاربة ما تراه أفكاراً متطرفة منحرفة عن التعاليم التي يؤمنون بها، وعلى رأسها مخالفة تعاليم الدين. فك الارتباط بالقاعدة نهاية "النصرة" لم تتأخر الإدارة الأمريكية في تصنيف النصرة كتنظيمٍ إرهابي، ففي ديسمبر 2012، أعلنت الإدارة الأميركية عن ضم جبهة النصرة إلى لائحة الإرهاب، وبذلك، انتقل التّنظيم من جبهة معارضة، عناصرها سوريون وأفغان وعراقيون ومن جنسياتٍ أخرى، إلى تنظيمٍ إرهابي يُنظر إليه كذراعٍ للقاعدة في بلاد الشام. أكّد ذلك مبايعة أمير التنظيم، أبو محمد الجولاني، لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وإعلانه أن التنظيم أسس بهدف نُصرة سوريا والشعب السوري، ولا أهداف خارجية له، لا في أوروبا ولا أميركا. حصر نشاط "النصرة" في سوريا، مثّل منحى قاعدياً جديداً، فالقاعدة لا تحصر نشاطها في إطارٍ جغرافي محدّد، عكس ما أعلنته "النصرة"، فمنذ حرب أفغانستان حتى 28 يوليو 2016، تاريخ تغيير إسم جبهة "النصرة" لـ"جبهة "فتح الشام"، لم نشهد أي حصرٍ للنشاط. بإعلانها الانفصال عن القاعدة، وحصر نشاطها في سوريا، حاولت "النصرة" رفع إسمها عن لوائح الإرهاب، والتحول لتنظيم سوري خالص شبيه بأحرار الشام وجيش الإسلام، تفادياً لسيناريو تفكيك قاعدة الجهاد في العراق. بين الزرقاوي والجولاني التشدد نهجاً يعتبر أحمد نزّال الخلايلة، الشّهير بـ"أبو مصعب الزرقاوي"، رائد ظواهر الذبح والإحراق والتكفير، وعراب النهج الجديد للتنظيمات الجهادية الراديكالية. أبو مصعب الزرقاوي، المنشق عن القاعدة بعد اختلافه معها على أسبقية العداء والجهاد، بتفضيله تفجير المساجد والحسينيات والحرب على "ألروافض الشّيعة" قبل مقارعة الأمريكي، أسس منذ التسعينات تنظيم "التوحيد والجهاد"، الذي فُكّك وانتهى بمقتل "أبو مصعب الزرقاوي". تفكيك جماعة "الزرقاوي" ارتكز على الاغتيال كركيزة أساسية، تم بعد الاتفاق على تأمين الانسحاب الأمريكي من العراق، وعليه، اقتضى تفكيك الجسم الحديدي للتنظيم، عبر اغتيال رأسه الأساسي، مع أن "القاعدة" اعتمدت نظاماً جديداً في التخفّي وإخفاء قياداتها تجنباً للاغتيالات، وهو نظام "مجاهيل التّقاة"، أي اعتماد قياداتٍ غير معروفة الهوية والإسم والوجه. بعد مقتل الزرقاوي، عين أيمن الظّواهري، زعيم تنظيم القاعدة، أبو حمزة المصري "المهاجر" مكانه على رأسه تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. المهاجر أعلن بيعته لأبو عمر البغدادي، وانضم عناصر من "دولة الإسلام في العراق" ومجموعاتٍ من النقشبندية والفصائل العراقية إلى تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" الذي كان يترأسه الزرقاوي، وبذلك، فُكّك التنظيم وشُرذم، وتم اختراق جسده الحديدي بعناصر مخابراتية، قبل اغتيال أبو حمزة المهاجر بعد شهرين، ليتسلّم أبو بكر البغدادي الخلافة مكانه، ويغيب ذكر التنظيم، بعد إشاعة القضاء عليه من قبل الصحوات العراقية. التنظيم في سوريا: عودة "البطل" تغير أسماء التنظيمات وتنوّعها فرضا عودة موجة الاغتيالات، فمع بداية الربيع العربي قُتل "بن لادن"، في 2 مايو 2011، وبموته، ظهرت شخصيات تطمح لقيادة تنظيم القاعدة، فانهيار المنظومة وانتقال العناصر من تنظيمٍ إلى آخر ولّد حالة من التشتت. الجولاني اليوم، يواجه مشاكل عديدة أبرزها انشقاقه عن القاعدة ولو أنه يجامل زعيمها. ويواجه مشكلة انشقاق عناصر من مقاتليه، ومشكلة الاندماج مع باقي الفصائل المعارضة السورية، والتي لم تنجح بعد، إضافةً إلى مشكلةٍ أساسية مع 3 شخصيات بارزة في الجنوب السوري، ولا تنصاع لأوامره بشكلٍ تام، هم ميسرة القحطاني ومنهر الويّس وأبو الجنديم الأردني، عدا الخلافات الكبيرة التي يواجهها الجولاني مع جيش الإسلام وغيره من الفصائل المتشددة والمقاتلة في سوريا. حاولت جبهة "فتح الشّام" إخفاء هذه الخلافات وفشلت، وفشل بالتالي أبو محمد الجولاني في فك طوق الخيانة والاغتيالات عن عنقه. أمام العوامل المذكورة، اضطر الجولاني لتسليم إدارة إدلب، التي تخضع لسيطرة فتح الشام، "النصرة"، لشرعيين "جهاديين" تونسيين ومصريين، لا سوريين، فالإمداد والتموين وغيرها أصبحا بيدهم لا بيد السوريين، لأن الشرعيين السوريين يعرفون المدينة وأهلها وقد يؤثر ذلك على ولائهم. ببدء الاغتيالات، سيترك الشرعيون الأجانب النصرة وينضمون إلى داعش، أما الشرعيون السوريون، فسينتقلون إلى "أحرار الشام" وغيره. "احتال" الجولاني على الظواهري مرتين، الأولى ببيعته القاعدة هرباً من بيعة داعش، والثانية بالتهرب من بيعته للقاعدة خوفاً من قصف التحالف، ومقتل شخصيات مقربة من الظواهري، كأبو فراس السوري وأبو خالد السوري. وأبو خالد قيادي قاعدي له ثقله، قُتل الإثنان بظروفٍ غريبة، يُتهم الجولاني بالضّلوع بها، وهما زارا سوريا للحكم لاسم الظواهري في خلاف الجولاني - البغدادي. هذا كلّه حرمه من الغطاء القاعدي، وضيّق الخناق عليه، فتفكيك النصرة المحتم سيكون باغتيالات كما حصل في العراق، وسيذوب معظم عناصرها في الفصائل المقاتلة على الأرض، التي كان الجولاني قد قضى على مثيلاتها منذ 2014، كمجموعة فراس بيطار وجمال معروف ومجموعة الـ13 وغيرها، وكلّها مجموعات سورية خالصة. بالمحصلة، وضع النصرة اليوم الحرج، متماشياً مع الاغتيالات، سيوصل إلى أمرين، انضمام عناصرها لداعش وغيرها من الفصائل، وطيّ صفحة الجولاني وتنظيمه، بعد 5 سنوات ونيّف من البروز الإعلامي والعسكري. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. أحمد ياسين صحافي ومدوّن لبناني شاب، حاصلٌ على عدّة جوائز في التّدوين، كما على لقب سفيرٍ لحقوق الإنسان من منظمة التّنمية البشرية في الأمم المتحدة. نشر في وسائل إعلامية لبنانية وعربية عدة، منها النّهار، الأخبار، وصحيفة العربي الجديد، قبل أن يتولّى رئاسة تحرير موقع الحقيقة الإلكتروني، ويبدأ عمله كمراسلٍ تلفزيوني ومعدّ مواد في قناة ال LBCI. ولياسين أيضاً مساهمة كمنتج لأفلام وثائقية، عن فيلمه نوستالجيا، الذي يتحدّث عن مصوّري الحرب الأهلية اللبنانية وتجاربهم. @Lobnene_Blog كلمات مفتاحية الإرهاب العراق جبهة النصرة سوريا التعليقات
مشاركة :