هناك وجه مشرق، وآخر مظلم في كثير من القرارات التي نتخذها في حياتنا، ولن أنكر يوماً أن الطلاق أمر مشروع في ظروف معينة وضيقة، وذلك تعظيما للميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة بعقد النكاح، وكلمة الله العليا فيه، وما يترتب عليه من الروابط الاجتماعية المؤثرة، والتي من أخطرها: وجود الأبناء، والذين يمثلون مثال: الضحية البريئة، في مشهد الانفصال في أحايين كثيرة، فيدفعون ثمن شيئ لم يقترفوه، ولم يفهموه!. وعلى كل؛ ليس هذا محور حديثي هنا في هذا المقال. وإنما حديثي عن أهمية التروي في اتخاذ هذا النوع من القرارات، والتحرز من لحظات الغضب الجارف، أو الغيرة المفرطة، أو عزة النفس الكاذبة، أو الموازين المختلة في أتون المشكلة؛ التي تغيّب الحسنات، وتضخّم السيئات، أو الخضوع لسلطان العادات الاجتماعية والتقاليد الجائرة، مما يخالف العقل والمنطق والشرع، و تأباه الفطر السوية التي لم تتشوه بعد، مع ضرورة التحرر من المؤثرات الخارجية السلبية، عند اتخاذ قرار الانفصال، كيما يتحول الاضطرار إلى قرار الانفصال، من قرار رأب وإصلاح، إلى قرار صدع وجراح، في أعماق أنثى رقيقة، خلقت لتنعم بحياة كريمة، آمنة مطمئنة!! فحديثي إذا؛ عن الزاوية المظلمة، عن نتائج قرار الانفصال غير الصائب، أو المتعجل فيه، أسلط الضوء على بعض نتائجه السلبية، ليس لأن تلك الآثار برمتها يقينية الحصول والاطراد مع كل قرار انفصال، ولكن باعتبارها نتائج كثيراً ما تتسيد مشهد الانفصال غير الموفق، بسبب تلك القرارات غير الناضجة، و ما قد تورثه من آثار سلبية بالنسبة للمرأة على وجه الخصوص، والتي لمستها من خلال الاستشارات الأسرية. وأياً كانت الإمكانات الذاتية الظاهرة التي وهبها الله لبعض النساء؛ والتي قد تتمتع بها المرأة؛ من جمال و وذكاء ومؤهل ونحوها، وموقعها في الخصومة، وبعيدا عن الماديات وما يتعلق بها، سواء كانت مقتدرة أو موظفة وذات دخل أو لم تكن كذلك، فالأنثى لها كيانها وروحها وطبيعتها ومشاعرها الإنسانية التي تميزها عن غيرها، والتي تمثل الثقل الأكبر في معادلة الحياة الإنسانية، وجوهرها الأصيل في مثل هذه الأحداث، لعل الله أن ينفع بذلك أخواتي الغاليات. إن المرأة المنفصلة عن زوجها بشكل عام، قد تحظى باهتمامٍ وتعاطفٍ كبيرين ممن حولها برهة من الزمن في أيامها الأولى، ثم يتوجه الناس بعدها لحياتهم الخاصة، ومصالهم وانشغالاتهم ومشاكلهم عن قريب؛ بين الفجأة والتدريج، وتكثر الأعذار والإنسحابات من مشهد التعاطف والخدمات والوعود المقدمة لها، والتأكيد على وجود ألف بديل منافس لطليقها. فتتكشف الأيام عن جراح غائرة، ربما أخفاها التكبر و الاستعلاء، أو الغيرة العمياء في لحظات الاستغراق، أو العجلة وعدم الحكمة -سواء كان الأمر منها أو من ذويها -، عند اتخاذ قرار الانفصال، أو غير ذلك من الأسباب التي كانت وراء هذا الانفصال غير الصائب، من الرجل أو المرأة. فتبدأ المرأة بعد سكون العاصفة؛ بالوقوف متعقلة على جرح عميق، يصعب أن يندمل سريعاً من ذاكرة الأيام -إلا أن يشاء الله -، فتتجلى لها بعض الحسابات التي لم تكن حاضرة في مشهد قرار الانفصال، و ربما أفسد هذا الأمر مزاجها ونفسيتها زمناً، لدرجة قد يصعب التأقلم معه سريعاً، وقد يعيقها نفسيا عن الارتباط لو ارتبطت، و قدر لها الارتباط من جديد، فمشاعرها المجروحة؛ قد لا تتيح لها فرصة ضبط نفسها، مع أضعف موجات الخلاف مع شريكها الجديد. ومما يزيد الوضع تأزما؛ ثقافة بعض مجتمعاتنا العربية، من النظرة الجارحة لها، والافتراضات التهمية المبالغ فيها، وراء كل قرار انفصال بحق وبغير حق، وربما استخدمت حادثة الانفصال من بعض ضعاف النفوس من سيئي المعشر والخلق ممن حولها؛ وسيلة لتصفية الحسابات معها، وجرحها فوق جرحها مع كل خلاف يطرأ بينهما، وأن طليقها كان محظوظاً إذ طلقها، ونجا بنفسه منها! ثم إذا أرادت بعد فترة إعادة نفسها على مجرى الحياة من جديد، وترتيب أوراقها، وقررت أن تكمل مشوار حياتها، وأن تفرض نجاحها واحترامها، سواء من خلال استقلالها، أو من خلال بناء علاقة زوجية جديدة، نراها تدريجياً بدأت بالموافقة والرضا والقبول بحلول وخيارات هي نفسها التي طلقت في السابق من أجلها!، وربما كانت أشد منها على نفسها، والتي هدمت حياتها لها، وربما لم تكن تقبل بأفضل منها فيما مضى، وكل ذلك للهروب من واقعها، والتخلص من اتهامها بعدم النجاح في حياتها، و كان الأجدر بها أن تفكر في ذلك قبل قرار الانفصال من طليقها، فيا لله ما أسوأ العجلة (خلق الإنسان من عجل) سورة الأنبياء، ولن نقول إلا ما يرضي ربنا: قدر الله وما شاء فعل!!. ودعونا نقول: أنه بالفعل تهيأت لها بعض الظروف المناسبة، التي كانت تتمناها في تجربة جديدة، وتفاجأت بعد فترة؛ أن الحياة لا تصفو من مكدرات ونقص!، وذلك بولوجها في ظروف تحمل لونا جديدا من الألم من حيث تعلم أو لا تعلم، وقد تفوق تلك الآلام التي خلفتها في حياتها السابقة مع طليقها، فهل كانت تظن أن هناك حياة، تخلو من منغصات؟!. فقد تكون سابقا رافضة مشاركة ضرةً لها في زوجها، فإذا هي تتجرع مرارة الخليلة والصاحبة، مع زوج لم يحفظ لها حق العشرة، وطهارة الفراش، ليستنزفها بدون أي حقوق أو مقابل يمكنها المطالبة به، مع خليلة أو خليلات لا يحكمهن حق في قسم أو نفقة، سوى الهوى والتمرد!! وربما حرمت الانسجام النفسي والروحي مع الشريك الجديد، بسبب أصداء الماضي!. وربما تقرر الاستقلال أصلا، لتقطع مشوار حياتها، ولا يكون شيئاً من هذا ولا ذاك، وهو القرار الأضعف والأقل من جهة الواقع، ولن يخلو كذلك من منغصات!. وربما تظاهرت المرأة زمناً أنها نجحت بالفعل؛ كنوع من إقناع الذات والعقل الباطن بالنجاح المرتقب، وإنتهاء عقدتها من أزمتها السابقة، وربما لم تكن مدركة ما الذي وقعت فيه مجدداً بالفعل من مشكلة! وقد ينتهي الأمر -إن لم تمض الأمور كما رتب لها، بردود أفعال خطيرة، من انحرافها، وبعدها عن الطريق المستقيم، فتخلص إلى المعاصي أو العلاقات المحرمة، وإلى تصرفات متهورة غير مسؤولة، فتبني الاستقلالية غير الواعية في حياتها، وربما آل الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك لا قدر الله!! إن تضخيم الأخطاء؛ من الأوهام التي قد يبالغ الإنسان فيها، في عملية خداعه لذاته، وتبريره لبعض قراراته، لخلق حماسٍ داخليٍ شيطانيٍ موهوم لطلب لانفصال، وهدم بناء الأسرة! إن نضج الإنسان في هذه الحياة؛ ليس بالضرورة أن يصنعه عامل الزمن وحده دائماً، بل هو مزيج مركب من عدة عوامل؛ تكونه التجربة مع العلم، بالإضافة إلى وجود الملكة والحس الواعي، والرغبة الصادقة في الخير والإصلاح، مع الإطلاع على الواقع والمشاهدات المحيطة بنا، والسعيد من وعظ بغيره كما يقال. إنه لا يشك مسلم أن التوفيق بيد الله سبحانه، ولكننا نقصد تلك الحسابات والأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها مؤثرة في الأحداث، وأن العجلة من النزعات الإنسانية، التي جاءت الشرائع والأديان لضبطها، وتحديد مسارها، لاسيما في القرارات المصيرية؛ كقرارات الانفصال في الحياة الزوجية، وهدم الأسرة. إن الرضا بقضاء الله وقدره إيمان وعزيمة، ومراعاة الأسباب والأخذ بها شرع وعقل، والسعيد من وقي، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ولا بد!. ولذلك كان من حكمة الشرع وواقعيته وصدق توجيهه، أن جعل الطلاق ثلاثاً ولم يجعله واحداً، ليتسنى للزوجين التأمل والنظر و التفكير، وجعل له ظروفاً في غاية الضيق، حتى يتسنى وقوعه بالصورة الشرعية الصحيحة، وبشكل مليئ بالحواجز والعوائق، فلا طلاق في حيض، ولا طلاق في نفاس، ولا طلاق في طهر وقع فيه جماع، ولا طلاق في إغلاق، ولا طلاق في إكراه، وإلا كان بدعياً محرماً مرفوضاً غير مشروع ! وعدد مراحل الإصلاح والتقريب، ورأب صدع الخلاف بينهما -إن وقعت الخصومة وأرادوا إصلاحاً-، وشرع للحكمين من أهله وأهلها من ذوي الكفاءة والأهلية بالتدخل، وأمر بالصبر على ما يكرهه الزوجان من بعض النقص في أحدهما، لأن الحياة تطاوع ومودة وسكن ورحمة، وليست منافسة ومسابقة وتصفية حسابات، فلئن كان فيهما نقص من وجه، فعسى أن يكون خيراً من وجه آخر، وذلك من خلال الذرية الصالحة المقدرة بينهما مثلاً، والوفاء والحب وحفظ العهد الذي جمع قلبهما يوماً، وغيره كثير. و كان الشارع الحكيم قد عبر بالفساد الكبير في رفض الرجل الصالح، إذا تقدم للزواج من المرأة الصالحة، واللذين وقع عليهما الاختيار، إذ هما الأقدر بعد توفيق الله على تحقيق هذا المشهد الراقي والمتألق والصالح، في شتى الظروف الصعبة التي يمران بها، من خلال تجاوز كثير من العقبات المقدرة بينهما، وقد حذّر صلى الله عليه وسلم؛ من الوقوف أمام هذا السبيل، أو قطعه، أو إعاقة إمضائه بدون موجب وسبب صحيح، سعياً لتيسير هذا اللقاء المقدس، فيما رواه الترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) حسنه الألباني، و روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تنكح المرأة لأربع : لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، قال النووي رحمه الله: (الصحيح في معنى هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس في العادة ؛ فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين)، والله أعلم. أحمد حمودة حلمي الرأي كتاب أنحاء
مشاركة :