العرب الفلسطينيون في إسرائيل: في هذه اللحظات، بينما أنا أخط هذه الأسطر كانت السلطات الإسرائيلية تهدم عدداً آخر من منازل العرب الفلسطينيين في شمال صحراء النقب داخل إسرائيل، وترمي بأهلها في العراء. وقبل أسبوع تماماً كانت هدمت نحو 11 منزلاً آخر في قرية قلنسوة شرق تل أبيب وبالحجة ذاتها: البناء غير المرخّص. حدثان تصعيديان يشهدان على التوتّر الشديد في العلاقة بين الدولة العبرية الرسمية والعرب الفلسطينيين من مواطنيها. وهو توتّر ليس جديداً إلا في حدّته وفي تعمّد الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية تحويله إلى مواجهة مفتوحة تنتقل إلى المناطق الفلسطينية كلها. حالة فوضى ومواجهة يُمكن أن تؤجّل تشديد الخناق على نتانياهو من خلال خصومه الذين فرضوا سلسلة من التحقيقات الجنائية بحقه وحق عدد من المقرّبين منه. وقد باتت المعادلة واضحة: كلّما ضاق الخناق عليه وحُشر في الزاوية شدّد من الضربات الموجّهة للعرب الفلسطينيين في إسرائيل نفسها. وكان قد فشل قبل سنة في تفجير الوضع من خلال تحريك مقصود لملفّ الحرم القدسي الشريف وهو ما أفشلته القيادات الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر. تعكس هذه الأحداث تطوّراً استراتيجياً في السياسة الإسرائيلية يشكل منعطفاً واضحاً فيها. لقد اعتمدت النُخب اليهودية منذ قيام إسرائيل نهج شدّ العرب الفلسطينيين إلى داخل العملية السياسية وشجعتهم على الانخراط في عملية الانتخابات التشريعية لزيادة شرعية دولة إسرائيل الحديثة العهد ولضمان شرعية تأتيها من "الضحية" الفلسطينية المشاركة في العملية الديموقراطية والتمثيل البرلماني. إلا أن الاتجاه انقلب لدى نُخب اليمين المتنفّذة التي عمدت إلى إقصائهم من العملية السياسية والسعي إلى دفعهم نحو الهامش السياسي والعزوف عن العملية الانتخابية، عبر تشريعات رمزية وممارسات عملية وخلق حالة من اليأس من إمكان تحسين أوضاعهم المعيشية ومكانتهم المواطنية عبر العملية السياسية. كان الأمر في البداية جزءاً من تكتيك اليمين لمنع عودة النُخب العمالية وقوى الوسط من تشكيل ائتلاف بدعم الأصوات العربية. لكننا شهدنا في المرحلة الثانية تطويراً لهذا الاتجاه الى حدّ الإفصاح عن رغبة في إخراجهم من اللعبة الديموقراطية اليهودية. إن انتقال اليمين من الإقصاء الرمزي والمعنوي عبر خطاب الكراهية والعنصرية ضد العرب، إلى ممارسات فعلية، كتصعيد هدم المنازل في كل أماكن وجود العرب الفلسطينيين، جرّ وراءه مواقف متواطئة من النُخب العمّالية والوسطى التي تشارك في هذا التصعيد بالصمت أو من خلال النقد بصوت خافت. بل يبدو لنا بوضوح انجرار هذه الأوساط بالكامل وراء خطاب اليمين وممارساته تحت غطاء الأمن أو الحفاظ على القانون وسلطته أو الدفاع عن قوات الأمن وأدائها مهماتها وما شابه من تبريرات قومجية يهودية. ونشير إلى أن هذه القوى كانت إلى وقت قصير جداً تعوّل على الصوت العربي، قبل الانتخابات وبعدها، من أجل الوصول إلى سدّة الحكم. لكن هي أيضاً تخلّت في هذه المرحلة عن الصوت العربي وتمثيله وتتطلّع إلى العودة الى الحكم بقوى يهودية صرفة. وهي، كما تشير ممارساتها، غير معنية بالعودة الى تجربة آخر رئيس حكومة عمّالي، اسحق رابين، الذي توصّل مع الفلسطينيين إلى اتفاقيات أوسلو (1993)، وكان قد اغتيل لجملة أسباب منها أن حكومته استندت إلى أصوات نواب عرب دعموها من خارجها ومكّنوها من إنجاز الاتفاقيات مع الفلسطينيين. من شأن التصعيد الحالي أن يُفضي في المدى المنظور إلى مواجهة مكشوفة مع العرب الفلسطينيين قد يثمّرها رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو في الهرب إلى أمام من الطريق المسدود لحكومته. وهي حكومة يتهمها خصومها بأنها أضاعت كل الفُرص التاريخية التي تمنحها إياها التحولات العربية واستعداد الفلسطينيين إلى تقاسم الأرض وتعديل خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وأنها قد تتسبب بقيام دولة يكون الفلسطينيون فيها الأكثرية في مدى ربع قرن ـ كما ظهر في لافتات هائلة الكبر في شوارع تل أبيب ومراكز عدة في إسرائيل قبل أسبوع. أما إقصاء العرب الفلسطينيين في إسرائيل من اللعبة السياسية البرلمانية فهو حدث، إذا تحقق، يُشكل بداية جديدة للمسألة الفلسطينية، يلتقي فيها الفلسطينيون على جانبي الخط الأخضر بمصيرهم المشترك وجهاً لوجه. من هناك كل شيء يبدأ من جديد. وهو ما يعني عودة الصراع إلى المربّع الأول.
مشاركة :