متحف افتراضي لذاكرة المنفيين لطفية الدليمي تتناول الروائية الكرواتية دوبرافكا أوجاريك موضوع الحفاظ على ذاكرة المنفيين اليوغسلاف في روايتها “موطن الألم” بأن تقيم بطلة الرواية المدرّسة تانيا “المتحف الافتراضي اليوغسلافي” لتوثيق الحياة اليومية في يوغوسلافيا السابقة وتطلب من طلبتها المتحدرين من بلادها استرجاع ما يمكنهم استرجاعه من ذاكرة بلادهم وتدوينه كل من وجهة نظره، وتحدث المفارقة عندما تبرز الاختلافات العرقية والقومية والدينية وتؤجج نيران الأحقاد التي أوجدتها الصراعات والحروب بينهم، ويكتب الطلبة كلّ من وجهة ذاكرته العرقية المستيقظة، سيكتبون حتما عن أوجاع عرقهم ومظلوميّته وعن حقوقه المسلوبة، يكتبون عن الأشياء الجميلة التي عرفوها بين أحضان الأهل وأغاني الحب والرقصات والأطعمة ومذاقات الحلوى والروائح والثياب، وتتعاظم نزعة الاختلاف بينهم وبين مدرّستهم التي يحتفلون بعيد ميلادها ويغمرونها بالمرح والهدايا ثم يقدمون شكوى ضدها لدى رئيس القسم بأنها لم تدرسهم شيئا ذا قيمة. تبرز حالة التشظي الروحي أو الفصام النفسي لدى الطرفين، فوشاية الطلبة بمدرستهم كانت نتيجة الفوضى الروحية والعقلية التي يعانيها المنفيّ وهو يقف غريبا ووحيدا بلا جذور ولا هوية راسخة، الأستاذة تانيا ذاتها تعاني من الفصام بقدر يكفي لتعزيز رغبة الانتقام من طلبتها الذين خانوها وتفضح هذه الحالة مقدار الضياع الذي يكابده المنفيّ المقتلع من جذوره وفقدانه لهويته ولغته وذاكرته وهو يحاول مرغما اعتناق حياة جديدة لا بديل عنها. يشعر المنفيّ الضائع بالمرارة والغيظ والقهر فينعكس ذلك سلوكا عدوانيا ضد صحبه ومعارفه، فهو ليس قادرا على امتلاك هوية كاملة ولغة يعبّر بها عن خلجاته، وفي الآن ذاته يعجز عن العودة إلى وطنه ويعذبه هاجس التوق المضني إلى تلك العودة المرتجاة. تركز أولى الممارسات الهمجية في الغزو والحروب الأهلية والحروب بين الدول على محو الذاكرة الثقافية للعدو بخاصة في البلدان ذات العمق الحضاري العريق الممتد، إذ يستهدف العدوان المواثل الحضارية والأمكنة الأثرية والمكتبات والمتاحف والجامعات ودور السينما والمسارح والمراقص وصالات الموسيقى ومعارض الفن، مثلما عمد إلى تفجير المباني التراثية والكنائس والجوامع ومعابد الأقليات بعد سرقة نفائسها ومخطوطاتها الثمينة. في مثل هذه الحروب يهرب الناس المهددون ناجين بأنفسهم من هول الجحيم والموت الذي يحاصرهم كل لحظة، فلا يحملون معهم سوى متاع قليل وذاكرة مجروحة وآلامٍ تجلّ عن الوصف تركها فقدان الأبناء والممتلكات والمنازل والوطن، ويواصل المشردون العيش في بلدان اللجوء التي لن تصبح أبدا وطنا بديلا، فمعظم بلدان المنافي تشترط على اللاجئين أن يندمجوا، أن يتعلّموا لغتها، أن يتخلَّوا عن ذاكرتهم وثقافتهم وعاداتهم وهويتهم ويعتنقوا عادات بلد اللجوء وثقافته، دون أن يتمكن معظمهم من الاندغام الكلي في الثقافة الجديدة. وتعاني غالبية هؤلاء اللاجئين من حالة فصامية شديدة الوطأة، ويترنحون بين رغبة دفينة ملحّة للاحتفاظ بذاكرة بلدانهم وثقافتهم ولغتهم الأم وبين ضرورات الاندماج التي تتطلب التخلّي عن ماضيهم وتقمص شخصيات جديدة، فيتعذر عليهم التعبير بلغتهم الأم عن أحلامهم وعواطفهم ورغباتهم في الوقت الذي لا يحسنون فيه الأمر ذاته باللغة الجديدة التي شرعوا يتعلمونها، وعندها يرون الأبواب موصدة بوجوههم ولا خلاص، وتبدو الحلول مستحيلة كلها، إما العودة للوطن الذي تشتعل فيه نيران الصراعات وذلك يعني الموت المحتم، وإما الضياع في عزلة الغربة واتخاذ سبل الإدمان والجريمة والتحلل، وإما القبول بالواقع والاندماج في الحياة الجديدة والتأقلم معها وعندها لا تجدي فكرة إقامة متحف افتراضي في لملمة الشتات البشري وإسعاف الأرواح المأزومة في محنة غربتها. كاتبة من العراق سراب/12
مشاركة :