بعد قرون من الصراع استطاع الشعراء فرض سُلطتهم على المتلقي –والناقد تحديداً-بشكل واضح وبأساليب وطرق متنوعة، إذ تمكّنوا بدايةً من انتزاع حق التوسع في استخدام اللغة بفرض فكرة الضرورات الشعرية على اللغويين الذين كانوا يرفضون المساس باللغة أو مخالفة قواعدها بأي شكل من الأشكال، وبعد تحدّي الفرزدق المشهور وقوله مخاطباً عبدالله بن إسحاق الحضرمي: علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا، رأينا تنصيب الشعراء أمراء على اللغة بواسطة الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي قال: الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنّى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ومدّ المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقرّبون البعيد ويبعدون القريب ويُحتج بهم ولا يُحتج عليهم. وكان حازم القرطاجني من المؤيدين للفراهيدي فقال: فلأجل ما أشار إليه الخليل، رحمه الله، من بُعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام واتساع مجالهم في جميع ذلك، يحتاج أن يُحتال في تخريج كلامهم على وجوه من الصحة، فإنّهم قلّ ما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم، فليسوا يقولون شيئًا إلا وله وجه، فلذلك يجب تأوّل كلامهم على الصحة، والتوقف عن تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه. كذلك نجح الشعراء إلى حدّ كبير في ترويض جموح الناقد بترسيخ فكرة أخرى هي: أن الناقد شاعر فاشل، فأصبح الناقد المبدع يمارس النقد لسنوات طويلة لكنه يُبالغ في تواضعه أو لا يجرؤ على التصريح بأنه وصل لمرحلة يستحق فيه صفة الناقد، في حين أضحى أقلّ الشعراء موهبة يتفاخر بشاعريته ولا يرضى أن يُذكر اسمه من دون اقترانه بوصف الشاعر! حاول الشعراء فرض مضمون عبارة لحوم الشعراء مسمومة بأساليب مختلفة وبسدّ جميع الطرق أمام المنتقدين، فرفضوا أيضاً انتقاد الشاعر من غير الشعراء، وشاعت عبارة البحتري: إنما يعرف الشعر مَن دُفع إلى مضايقه، فأصبح متذوق الشعر يتحرّج من انتقاد أخطاء الشاعر ويغض بصره عنها، فنتج عن كل ذلك تزايد أعداد الشعراء واستمرار الغثاء الشعري في مقابل تقلص أعداد النقاد ومن يجرؤن على مواجهة الشعراء بتجاوزاتهم وأخطاء قصائدهم. أخيراً يقول معجب السبيعي: ما راح عن بالي خيالك دقايق يوم إن ما باقي من الوصل غيره قفّيت وأنت تشوف ظنّك حقايق الله يسامح شر ظنّك وخيره
مشاركة :